زكية إبراهيم الحجي
من يقرأ التاريخ لا شك أنه سيقف مشدوهاً أمام أسماء نساء عظيمات تاريخهن صفحات حافلة بالسيرة العطرة والمواقف الرائعة وكان لكل واحدة منهن دور بارز دخلت من خلاله أبواب التاريخ.. فمنهن من ذكرها التاريخ في مجال العلم والعبادة.. ومنهن من كان سجلها زاخراً بما كانت تتميز به من صبر وتضحية.. ومنهن من كان تاريخها سطوراً مضيئة من الوفاء والتضحية.
أنا يتيمة معذبة أرسف في قيود الرق.. هكذا ناجت ربها بعد أن تربص بها لص فخطفها وادعى أنها جارية له ليبيعها لأحد التجار ببضع دراهم لا تتجاوز عدد أصابع الكف وكان رجلاً لا يرقب الله إلاً ولا ذمة عندما كان يذيقها أنواع العذاب إنها العابدة الناسكة رابعة العدوية وكنيتها أم الخير.
رابعة العدوية امرأة لا كالنساء فقد عاشت حياة مختلفة عن بقية نساء زمانها.. لذا وجدت أن استغراق القراءة والبحث في سيرتها هو بحد ذاته متعة استثنائية لما فيها من السمو والارتقاء فوق بريق الدنيا ومتعها ولما تتميز به من صفاء النفس ونقاء الروح الذي افتقدته الحياة في مدّ الحضارة المادية وسلطتها.
ولِدت رابعة العدوية في بلاد الرافدين وتحديداً في البصرة.. فقدت حرارة عطف الأب وحنان حضن الأم منذ طفولتها بسبب وفاتهما ودون أن يتركا لها من أسباب العيش سوى قارب ينقل الناس بين ضفتي نهر دجلة مقابل دراهم معدودة.. وعندما دب الجفاف في إحدى السنوات مدينة البصرة ووصلت إلى حد المجاعة فرق الزمن بينها وبين أخواتها.. أصبحت رابعة وحيدة مشردة تجول الطرقات بحثاً عن ملجأ لها إلى أن وقعت في يد اللص الذي باعها لأحد التجار فأذاقها مر العذاب وفي خلوتها تناجي ربها قائلة.. أنا يتيمة معذبة أرسف في قيود الرق.
رابعة العدوية ابنة بلاد الرافدين الزاهدة الخاشعة التي عاشت حياتها عكس حياة سائر الناس انعزلت في دنيا التصوف وأصبحت واحدة من الشخصيات المحورية في التصوف وظلت تتزود بالفكر الصوفي للانفلات من ملذات الحياة ومشاغلها.. ولكن لا يمكن أن نأخذ في هذا السياق مذهبها الصوفي إلا أنه مرتبط بالتدفق الفكري والروحاني المتراكم في بيئة بصرة العراق الحبلى بمآثر وفلسفة تمتد أشواطها بين الحضارة السومرية وما يليها من حضارات إلى الإسلام لذا فإيمانها بالفكر الصوفي يعود إلى جذور بلاد الرافدين.. فقد سجل التاريخ بأن أول صلة للإنسان العراقي القديم في بلاد سومر وبابل وآشور كانت بينه وبين الآلهة والطبيعة.. وهذا ما كشفته الأساطير في واحدة تعتبر أشهر ملحمة عبر التاريخ ملحمة «كلكامش» ملحمة الفكر التأملي للإنسان القديم.. ويبدو أن هذه المعطيات شكلت شرارة التغيير الجذري لدى رابعة العدوية الذي أخذ مداه في الاستيعاب ثم المحاكاة لتستنسخ الظاهرة من خلال الدين الإسلامي وتمنح نفسها ممارسة الزهد إلى حد الأفق الصوفي.