د. محمد بن إبراهيم الملحم
كراسي البحث العلمي سُنَّة حسنة نسأل الله أن يجزي من سنها ومن وافق عليها خيرا، ولكن عندما تتأملها في امتداد جامعاتنا العريقة لا تجد بينها واحدا للتربية والتعليم! نعم، يوجد ما يمس هذا الجانب في مجالات محدودة مثل كرسي تطوير تعليم العلوم والرياضيات، ودراسات الطفولة، وتعليم العربية لغير الناطقين، ولكن، ومع أني لا أدري إلى أي مدى تعمل هذه الكراسي فعليا، فإن هذه الموضوعات المتفرقة لا تسهم في الارتقاء بخدمة التربية والتعليم في بلادنا، ما أرمي إليه هو كرسي للبحث العلمي المساند للقرار، والذي يدرس كفاءة العملية التعليمية في بلادنا بكل متغيراتها وعواملها المتفاعلة معها، الاقتصاد والأنظمة والتخطيط والميزانيات والقيادة والفكر التربوي الذي تتبناه. نحتاج إلى مؤسسة بحثية مرموقة تؤسس لدينا بعقول مفكرة واعية لديها رصيد علمي حقيقي يقوم على أساس من الخبرة الأكاديمية والعلاقة العلمية مع المؤسسات التربوية المرموقة، لقد تعبنا من بحوث الجامعات التي لا تقدم كثيرا وتتلون بما يتلون به بحث الترقية والحصول على الدرجة، فلا يثق بها متخذو القرار كثيرا، وتظل دائما رهن أرفف المكتبات الجامعية فقط.
لماذا لم يتقدم البحث العلمي التربوي لدينا؟ لا شك أن لهذا أسبابه الكثيرة منها أسباب تاريخية لا يفيد الخوض فيها الآن، ولكن منها ما يتعلق بانخفاض النظرة إلى التخصص وقلة اهتمام المؤسسات العلمية (كالجامعات) به خاصة إذا كان لديها التخصصات الجذابة الأخرى كالطب والهندسة والعلوم؛ حيث توفر نتائج البحث العلمي فيها فرصا أكبر لظهور الجامعات وتقدم سمعتها. وهذه مشكلتنا.. الذاتية والظهور هي المحرك الأساس في نظرتنا للأمور وميزاننا للأولويات، ليس على مستوى الأفراد فقط بل حتى المؤسسات، بل أظن أن هذه المقارنة ظالمة فما المؤسسات لدينا إلا أفراداً، ذلك أن التوجه المؤسسي لا يبنى على توجهات مجالس تدير هذه المؤسسات بل على توجه الفرد الذي يديرها أو ربما كان معه واحد أو اثنان ذوا نفوذ في اتخاذ القرار فتظل توجهات المؤسسة تدور في فلك هؤلاء.
إن البحث العلمي له دوره الكبير في حركات التغيير التربوي عبر العالم وفي تاريخ التربية المعاصر، ولقد أشرت إلى ذلك في محاضرة قدمتها الأسبوع المنصرم عن التغيير التربوي عبر الدول بمعهد الدراسات العليا التربوية بجامعة الملك عبدالعزيز حيث استشهدت فيها بتقرير قوه Goh Report الشهير في التعليم السنغافوري والذي قدمه في السبعينات الميلادية إثر استقالة أعداد كبيرة من المعلمين متزامنا مع نمو اقتصاد الدول المجاورة مهددة حركة التقدم التعليمي الناشئة في البلاد، ليقدم هذا البحث العلمي مجموعة قوية من التوصيات لم ينظر لها السياسيون على أنها نقص في حقهم وفي قدراتهم الإدارية الخارقة، بل أخذوا بها وعملوا على تحقيق مقتضياتها واحدة واحدة حتى انتهوا إلى اقتصاد متين استثمر في التعليم المهني بقوة (كواحدة من أهم توصيات ذلك البحث) كما سهلت المسارات المرنة التي اقترحها التقرير للطلاب عملية التعلم والتفوق فيها. وأعقبت هذه الدراسة دراسة أخرى منتصف الثمانينات عن الموهوبين لتنتقل سنغافورة إلى قفزة أخرى من خلال رعاية الموهوبين والاستثمار فيهم بكل المجالات الممكنة.
هذه هي الدول التي تتطور عبر احترام العلم وتوظيف العلماء وتقديم الرعاية والدعم لهم خارج نطاق الوظيفة ودرجاتها وترقيتها، وهذا لا تحققه إلا مراكز البحث العلمي المستقلة عن الدور الأكاديمي في الجامعات ونظمها الإدارية، ولهذا ربما تمثل كراسي البحث المستقلة والمتخصصة في الشأن التربوي نافذة أمل في هذا المسار.