د. جاسر الحربش
الحياة هي أن تعيش في وسط تحبه ويحبك، أن تعيش بين أحبابك، والموت هو أن تعيش لوحدك بعد فراق أحب من تحب. عندما تفقد بعضا من تحب تموت بالتقسيط، والموت النهائي وأنت باق على قيد الحياة هو أن تفقد أحب حبيب.
انتشر بالواتساب مقطع فيديو عن امرأة عربية عجوز في مغسلة الأموات، راكعة في ركنها الأيسر أمام ثلاجة صغيرة لحفظ الجثامين.
السيدة العجوز تنحني جاثية أمام باب الثلاجة المفتوح، تتأمل جثة ابنها الذي سقط قتيلاً في إحدى المعارك العربية العربية.
بكل الحنان الذي لا يمكن تركيزه وتكثيفه سوى في نفس وجسد وروح الأم، تسحب المرأة العجوز النقالة التي تحمل جثمان ابنها نحو صدرها، تنكب على وجهه شماً وتقبيلاً وتضمه بكفيها المعروقتين وتلملم الرداء الذي يلفه لتحمي الميت من البرد، تدفع بالنقالة إلى داخل الثلاجة ثم ما تلبث أن تسحبها من جديد لتعيد تقبيل وشم وجه ابنها ولملمة ردائه على جسده، تستمر وتستمر عاجزة عن الانصراف والاستسلام.
أخيراً تلتفت نحو رجلين في المكان منشغلين بتغسيل جثامين أخرى تنظر إليهما ثم تجول ببصرها في المكان.
عبر كل سنوات عمري التي تجاوزت السبعين ومآسي الموت التي يشاهدها طبيب مثلي خلال أربعين سنة في مقابلة الموت وجهاً لوجه، لم يسبق لي أن اختبرت حزناً كذلك الذي رأيته موزعاً بالتساوي على كل بقعة في وجه تلك الأم العجوز.
العينان الحمراوان مفتوحتان من محجريهما وزائغتان، والشفتان تبحثان عن التمتمة بأي كلام ولا تجدانه. بدت لي تلك السيدة الأم العجوز أنها ماتت لتوها وهي ما تزال على قيد الحياة.
أمام ذلك المشهد بكيت في داخلي، بكيت مع السيدة العجوز وعلى نفسي حين فهمت لتوي معنى الحياة الحقيقي ومعنى الموت. الموت بتعريفاتها الجسدية يعني توقف الجسد واستيفاء النفس مغادرة إلى خالقها إلى غير رجعة دنيوية.
ليس هذا سوى موت الجسد العضوي المتعارف عليه، ولكن يوجد موت آخر. إنه موت تلك الأم العجوز وهي تقبل وجه ابنها المتوفى وتلملم عليه رداءه في ثلاجة الموتى لتحميه من البرد. اللهم ارحمنا وأعنا على فهم الحياة والموت قبل أن نموت.