د. زايد الحارثي
بقالب تربوي علمي وخبرة إدارية طويلة ونظرة عميقة وفهم ثاقب، وانطلاقا من واجبنا الوطني نستكمل الحديث عن الموضوع البالغ في الأهمية وهو دور الجامعات في وقتنا الحاضر لتناسب الاحتياجات الوطنية وتطلعات المستقبل إلى السعي وبشكل مستمر في بناء المعرفة بما يتوافق مع التطور العلمي والتقني واحتياجات العصر وفق رؤية مملكتنا 2030.
وهنا لابد لنا من وقفة حول عدة مرتكزات لابد للحديث عنها ومناقشتها..
المرتكز الأولى: هو الجانب القيمي والأخلاقي في بناء الكوادر والأجيال القادمة ورعايتها فهذا هدف عام واستراتيجي لأي تنمية تحتاج أن تتسم بسمة الديمومة وبلدنا من أولويات الدول والنموذج المعول عليه في الاقتداء في هذا الخصوص وبطبيعة الحال أن تترجم هذه المسلمة إلى أهداف وسياسات وإجراءات عملية تحقق هذا الهدف السام بدون التعارض مع ما يلي من أهداف ومتطلبات ومرتكزات يقوم عليها الدور الأساسي للجامعات.
والمرتكز الثاني: يتعلق بالمصادر المالية والتمويل المالي للجامعات فهي إلى حد الآن تعتمد بشكل رئيسي على تمويل وميزانية الدولة وحتى الجامعات الخاصة ينطبق عليها نفس الظروف ومن متطلبات النجاح للجامعات للقيام بالدور الفعّال في هذا التوجه أن تضع خططا تنسجم مع الرؤية للاعتماد على تمويل ذاتي فعال من خلال الاستثمارات والمشاركات في برامج ومشاريع التنمية والمنتجات التي تخرجها الجامعات فكليات الطب والصيدلة تستطيع أن تساهم بالأبحاث إلى الأدوية التجارية وكليات العلوم والهندسة حيث تستطيع أن تنتج الكثير من المنتجات الهندسية، والمشاريع الهادفة بالاشتراك مع الشركات والمصانع التي تدير وتعمل في تنمية الوطن بل حتى المشاريع التخرجية لطلاب الجامعة يمكن أن تكون منتجات وبوادر لمشروعات صغيرة يدخل من خلالها الخريجون إلى سوق العمل وسوق الإنتاج. وكليات التصاميم والفنون تستطيع من خلال برامجها ومشاريع طلابها إنتاج الكثير من الأعمال التي تسهم على الأقل في زيادة دخل أصحابها بل يمكن أن تضيف في مردودها للمؤسسات التي أوجدت المواد والرعاية والبيئة الصالحة لمثل هذه المخرجات الكليات التربوية وما إدراك ما الكليات التربوية، هذا في نظري حجر الزاوية في تحول الجامعات يجب أن تكون السباقة للانطلاق والريادة داخل الجامعات فهي التي تخرج المعلمين وهم عماد التحول والتنمية والتربية فهناك الكثير والكثير مما يمكن أن تعمله وتقوم به كليات التربية في بلادنا في قيادة التحول في بلادنا ولكنها مع الأسف لا تزال قابعة في خضم أسوار الدور التقليدي في التدريس والإعداد البسيط للمعلمين أو المرشدين ودورات المدراء والموجهين دون مواجهة التحديات الحديثة في الإعداد والتطوير للمساهمة في قيادة التحول في المشاريع والأفكار والأبحاث والتجارب التربوية التي يحتاجها المجتمع للحاق بركب الأمم الناجحة كما نشهد آثار التربية والتعليم في سنغافورة وماليزيا وكوريا وفنلندا واليابان وغيرها.
ولاشك أن كليات التربية في الجامعات مطالبة قبل غيرها بتغيير جذري في عملها الروتيني إلى تغيير في الخطط والبرامج والتي من خلالها يمكن قياس مخرجاتها التي تسهم فعليا في إعداد معلم محترف مبدع فخور بعمله وسعيد بمهنته قدوة في شخصيته وسلوكه وماذا نتوقع من مثل هذا المعلم؟؟ اترك للقارئ الحصيف أن يتخيل نتائج وجود مثل هذا المعلم بين ظهرانينا ويقوم على تربية أبنائنا.
لقد تعددت المؤتمرات والندوات والأبحاث عن دور كليات التربية في إعداد المعلم المميز القدوة.... الخ. وذلك منذ أكثر من أربعين عاما؟.
ولكننا مع الأسف لإنزال نشهد نفس الدور ونفس المخرجات وقد يقول قائل وما هو الاقتراح بإصلاح الخلل في الدوران في الحلقة المفرغة؟؟؟ وأنا أرى أن أي عمل أو برامج أو مشاريع لا يمكن أن تحقق أهدافها ومخرجاتها ما لم يكن هناك وسائل لقياس تلك المشاريع وعلى فترات ومراحل محددة ثم يجري تقييم ما أنجز وما لم ينجز (المتابعة والمحاسبة) أساس النجاح في مثل هذه الحالات لما شعر المشرعون في الولايات المتحدة بتأخر بسيط في تحصيل الطالب الأمريكي في بعض المواضيع مقارنة بالطالب الياباني أو الألماني أو غيرهم أطلقوا صيحة الغضب وقرعوا جرس الإنذار فكان التقرير العاجل الشهير بعنوان (أمريكا في خطر !!!) فهل كانت في خطر حقيقي؟؟ بل هي متابعة ومحاسبة ووقفة لرد الاعتبار للمكانة المأمولة للطالب الأمريكي وتحصيله المناسب وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد فقد تصدى لهذه القضية أعلى سلطة في البلد تقديرا واهتماما واستشعارا بأولوية الموضوع وهذا ما ساعد على إصلاح الوضع في زمن وجيز بل تفوقت أمريكا واستعادت أمجادها ومكانتها من جديد وهكذا نحن الآن نحتاج إلى وقفة تقييم و محاسبة صادقة مع الذات ولخدمة المجتمع والوطن وأبنائه إننا لا نزال نسير في حلقة مفرغة وندور حول الدائرة نفسها ونكرر نفس المخرجات ونعول على نفس المصادر وأصبحت كلياتنا وجامعتنا تفرخ الألوف من العاطلين الذين لا يجدون من يستقطبهم لقلة خبرتهم أو نقص كفاءتهم ومهاراتهم التي رافقتهم حتى تخرجوا بها من الجامعات.
إن الحاجة الحالية والمتطلبات المستقبلية في ضوء الرؤية والرؤى والبرامج التي تفرض إصلاحا حقيقيا لمسار الجامعات ومخرجاتها وأنا على علم من تجربة ومشاهدة عدد من الجامعات الخاصة الماليزية تتصدر المشهد الاقتصادي والاجتماعي في توظيف خريجيها فقد بلغت نسبة التوظيف لخريجي هذه الجامعات ما يزيد عن الخمس وتسعين في المائة فساعدت في سد حاجة السوق واستثمرت في أبناء الوطن وعوضت ما يصرف على الشؤون الدراسية من قبل أولياء الأمور و الآباء من تكاليف الدراسة ساهمت وبقوة في توظيف الأبناء بوظائف مرموقة ومناسبة بينما أصبح من يتوظف من خريجي جامعاتنا أو لنفترض من يجد عملا لا يتجاوز خمسين في المائة على أحسن افتراض فأين الخلل؟؟؟
ولربما أصبح من المطلوب والملح على مجلس التعليم العالي أن يدق جرس الإنذار للجامعات الحكومية والخاصة بمثل هذا التوجه هذا في ظل غياب المبادرات من الجامعات للقيام بالدور المطلوب إلا إذا استثنينا جامعة البترول تقريبا وواحدة أو اثنتين من الجامعات الأخرى ممن لم يهدر طاقاته وطاقات كوادره في السعي والبحث عن أوهام الاعتماد المطلوب كما أسلفت فيما سبق حتى وجدنا شركات أو مراكز غير معتمدة أنشئت لغرض المتاجرة بمثل هذه الفقاعات وكان هذا هو هدف المؤسسات الجامعية بينما الحقيقة والمحك الحقيقي هو الجودة والجودة وحدها المتمثلة في المخرجات المؤهلة والمحملة بسلاح المهارة والمعرفة هي ما يجب التركيز عليه والحكم على نجاح أو فشل الجامعات في رسالتها وتأدية وظيفتها.
ونختتم مقالنا هذا بالطرح الموضوعي الرصين حول بموضوع القيادة في الجامعة والتي يعول عليها أساسا في إدارة دفة التحرك والتحول نحو تحقيق متطلبات الوطن وتحقيق الرؤية، وهنا يحضرني مقال لي نشرته في هذه الجريدة المميزة عن الإدارة في الجامعات وهل هي قيادة أم إدارة؟؟.
والحقيقة إننا نعيش في الغالب في ظل إدارات للجامعات تتسم بأنها إدارات جامعات وليست قيادات جامعات وهل تقدم الإدارات جديدا في موضوع وبرنامج التحول ؟ إني اعتقد أن إدارات الجامعات في غالبها إدارات وليست قيادات والذي ينبغي أن يكون هو القيادة وهي التي تقود الشمعة والنور والشموع لهذا التوجه ولذا فنحن في هذه المرحلة لحاجة ماسة وحقيقية لمثل هذه القيادات.
تلك هي اجتهادات ورؤية أزعم أنها مساهمة مخلصة من خبرة مجرب وأكاديمي عمل في الجامعة لسنين طويلة وعمل في الخارج في المجال التعليمي والثقافي بما يكفي للمشاركة لمثل هذه القضية المهمة.. هذا وبالله التوفيق.