د. عبدالله بن ثاني
قرأت تغريدة لمفكر سعودي، نصها: «في ظني أن مفكرين مثل محمد أركون وفهمي جدعان ومحمد عابد الجابري وسعيد عشماوي وغيرهم هم أفهم لرسالة الإسلام اليوم من ابن تيمية وابن القيم»..
وابتداء لا ينكر منصف ما لهؤلاء المفكرين الحدثاء من أضافة للفكر الإنساني بعامة ولا يمكن لذي ديانة أن يبخس الناس أشياءهم، ولكن المقارنة ظالمة لعدم توافر شروط الاحتكام والتحاكم زماناً ومكاناً وأحداثاً وقيمة ومشاكله، فالمدرسة العقلانية الحديثة بكل أنواعها تحتاج إلى ضبط في منهجها العلمي المتأثر بالمدارس الفكرية الأخرى دونما ضابط شرعي والتزام أخلاقي في الغالب ابتداء وما أفرزته الحركة العلمية والحراك الثقافي فيما بعد من نقد لتلك المدرسة التي يمثلها هؤلاء الكبار بجلد الذات ومساءلة ذلك العقل عن مدى فاعليته وجدوى قدرته على حل أزماته واستكشاف إمكاناته، فالخلل ليس في منهج السلف الصالح وإنما من يحمّل ذلك المنهج أخطاء الحركيين والحزبيين والمغامرين والمتشددين الذين هم أبعد ما يكونون عن منهج السلف الصالح بكل ما يحمله من تعايش وتسامح وتجديد، وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍمَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا».
وعطفاً عليه فإن محمد أركون في نقد العقل الإسلامي ومحمد عابد الجابري في نقد العقل العربي ليسا أفهم من شيخ الإسلام ابن تيمية لأنهما مفكران متأثران بالمدرسة الكانطية ونقدها للعقل المحض في أوروبا على يد الفيلسوف الألماني كانط (1804م)، ولكن أس نقدهما للتراث كان من خلال الاعتماد على روايات تراثية متناقضة، فنالوا من شخصيات بريئة وحكموا على أحداث غائبة لم يفحصوها من حيث الحقيقة والانتحال كما فحصها شيخ الإسلام بأدوات ذات معيارية شديدة ابتداء من فتنة الحاكمية في القرن الأول الهجري وما تلاها من ثورات الخوارج ومواقف السلف الصالح منها والتي رواها القصاص بطرق لا تخلو من طائفية وعصبية وغلو ونسيان بعد وقوعها بسنين طويلة، علماً أن المنهج القويم يفحص فيثبت الصواب ويمحو الغثاء وما أكثره، ولكن نقد الشخصيات والأحداث بمرويات لم تجمع عليها مصادر التاريخ القديمة دراية وروايه فضلاً عن نقضها عند بعض المؤرخين بروايات أخرى مما يجعلنا نتحوط في إصدار أحكامنا على أولئك الفضلاء في زمن الأفضلية، فالصواب السكوت والتفويض أو رد كل ما لا يتفق مع قواعد الإسلام وأخلاق الصحابة الكرام وديانتهم واصطفاء الله لهم لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد مات وهو راض عنهم رضوان الله عليهم جميعاً، وعطفاً عليه، فالحكم فرع عن التصور والتصور ناقص فالحكم يعتريه النقص ويصيبه الوهن ولذلك توقف أهل السنة عن الخوض فيها وقالوا: «إنها فتنة عصم الله منها دماءنا فلنعصم منها ألسنتنا»، علماً أن نقد كانط كان للفكر الأيديولوجي الإنساني بينما أسس الإسلام ثابتة في الصحيح من الوحيين وهما فوق النقد والتطاول بشرط الثبوت الذي يفهمه شيخ الإسلام ويستعصي على أركون والجابري وأمثالهما، وعلماء الإسلام كابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب فكّرا بما يناسب عصرهما تطويراً وتحديثاً واجتهاداً ومن يظن أن منهجهما يعارض الحداثة بمفهوم التطوير والاجتهاد وما بعدها فهو واهم ولكن اجتهدا بضوابط المصلحة والمناط والمآل والأسس الثابتة، وهما ليسا مسؤولين عن الأتباع والخلف سواء في الإفراط أو التفريط على السواء فكثير من الصور المحدثة التي اختلف فيها الخلف وتقاذفها الناس لم تكن في عصرهما ولو كانت لقالا فيها قولاً ينبع من روح الإسلام ومصلحة الأمة والمناط الإنساني والفكر المآلي لهما، ومن يتتبع فقههما يجدهما أكثر قدرة على الاجتهاد والمآلات تشهد على ذلك، فابن تيمية لا علاقةه بمنع قيادة المرأة للسيارة ومحمد بن عبدالوهاب لا علاقة له بتحريم السينما اليوم.
صدقاً حينما وقفت في التغريدة السالفة أمام كلمة (أفهم لرسالة الإسلام) أدركت أن أكبر معوق في خطابنا الإسلامي هو غياب المفكر السلفي الحقيقي (مفكر على منهج السلف الصالح)، ويلحظ إجهاض أي مشروع لمفكر سلفي بحرب من المصطلحات التي تشوهه أمام العامة وتنزع شرعيته في ظل سيل من المفكرين الحزبيين والطائفيين والعنصريين والشعوبيين والحداثيين والليبراليين والعلمانيين والشيوعيين وغيرهم، فلكل أيديولوجيا مفكروها الذين يسوغونها ويدافعون عنها ويحاولون ربطها بالواقع إلا منهج السلف الصالح بكل أسف، فضرورة وجود المفكر السلفي الفريد وليس الحزبي ولا الحركي تكمن في ربطه بين العالم الرباني والسياسي، من خلال احترامه النص المقدس والنقل الصحيح الذي لا يتعارض مع العقل ألبتة فالعالم الرباني يكشف حقيقته وصحته وملابساته في الدراية والرواية والمفكر يحاول أن يسبر أغواره ويسوغه للناس في مشروع قويم ليستفيد السياسي من توظيفه وتنفيذه في الواقع من خلال فكر مستنير وقواعد أصيلة وأسس راسخة لا تقبل التشويه والاختراق والطعن والتزوير والتشكيك والاستئثار بالعلم والمعرفة، وبخاصة أن وقار العالم وهيبة السياسي تنأى بهما عن الحراك الثقافي والعراك الفكري والسجال الإعلامي وما يتوافر خلالها من الردود والاعتراضات، فسماحة المفتي العلامة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ مثلاً لا يليق بمكانته النزول إلى مهاترات الإعلام والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي حول منهج السلف الصالح وما يعتريه من تشويه على يد الصغار والمغامرين.
إن مضمون التغريدة السالفة يكمن في التقليل من القدوات الصالحة والشخصيات المعتبرة والعلماء المجمع عليهم في الأمة في أكبر معضلة فكرية تحيط بخطابنا الإسلامي اليوم من خلال التقليل من شأن أئمة الإسلام والسلف الصالح والطعن فيهم وإلصاق التهم بهم وإدانتهم في محاكمات ظالمة لا تتوافرفيها شروط العدالة التاريخية والإنسانية والعلمية كاتهام ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب بقصور الفهم حيناً وبتخريب الواقع بالتكفير والقتل أحيايين أخرى في صورة لا تتوافر مع مافي أدبياتهم ومدارج مؤلفاتهم وسلوكهم مع خصومهم مما يؤكد أن وصف شيخ الإسلام والحكم على جهاده وعلمه وفكره بهذه السطحية افتراء لا يقبل من ذلك المفكر ولامن غيره، فما أحوجنا إلى شيخ الإسلام اليوم وكل يوم بشرط فهمه وقراءة نصوصه في مدارج كتبه قراءة صحيحة والخلل كل الخلل في تحميلها ما لا تحتمل واستحضارها في غير رحمها الذي قيلت فيه، كل ذلك يؤكد أن خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية وإمام الدعوة محمد بن عبدالوهاب القدماء والحدثاء لم يستحضروا أنهما كانا أكبر المجتهدين في واقعهما، وأعظم الإصلاحيين والمجددين في أمتهما، وأفهم المفكرين للإسلام ومقاصده العظمى وسماحته وسياسته الشرعية في فترات الحروب والجهاد والتغييرات والاضطراب، وأقدر عالمين على فهم فقه الأولويات والمصالح والمآلات والمفاسد ومناط الأحكام الشرعية، وربما هما الوحيدان بعد الرعيل الأول اللذان أنزلا الإسلام منازله في مدرسة الحياة الأخلاقية الكبرى وهما اللذان خلصا الإسلام من الغنوص، والغنوص جعل صفات الخالق في المخلوقين، وهذا الخلل لم تسلم منه الديانات السابقة قبل الإسلام والطوائف الإسلامية بلا استثناء كلها ماعدا من كان على منهج السلف الصالح متمثلاً بمنهج الشيخين ومدرستهما السلفية الفريدة التي ربطت الإنسان بربه وصرفت العبادة له وحافظت على صفاته دون وسائط ونظمت حياته الدنيا وعلاقاته المختلفة بمن حوله.
إن شيخ الإسلام ابن تيمية يحتاج من يقرأه إلى مفاتيح أجملها معالي الشيخ صالح آل الشيخ في محاضرته «كيف تقرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية»، ولذلك لا يمكن أن يحكم عليه إلا من قارئ متخصص يملك أدوات الفحص الصحيح ونقل الرأي الصواب ويثبت عنه الموقف الصراح، ولكي تتضح الصورة فكلامه متفرق وفي موضوعات شتى ولا يمكن أن يؤخذ نص في حديث خاص ليعمم على حالة عامة بعد مئات السنين، وهذا منهج في التفسير إذ لا يمكن أن تؤخذ آيات القتال بظرفيتها وخصوصيتها لتعمم على العلاقة مع الكفار بعامة في حالة السلم والسلام وبهذا يتبين أهمية التفسير الموضوعي للعامة كجمع آيات الجهاد ومعرفة أحكامه منها بعد ذلك وكذلك المرأة والحاكمية وشئون الحياة أكثر من أنواع التفسيرات الأخرى التي تحتاج لمتخصص يستطيع ربط الأحوال من محفوظاته ببعضها، وبهذا لا يمكن الاعتماد على تفسير قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ ، وترك تفسير قوله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .
وليس أظلم من وصف شيخ الإسلام ابن تيمية وإمام الدعوة محمد بن عبدالوهاب بالإرهاب والتكفير والانتقام، بل إن الكارثة حينما تنقل وسائل الإعلام كتبهما واستدلال الحركيين والحزبيين والدواعش بكتبهما ونصوصهما وهم على نقيضهما وهما من حارب وجاهد أفكار هذه الأحزاب والحزبيين الذين يكفرون بالكبائر والذنوب والخلاف وينازعون ويفتتون الصف ويشتتون الكلمة ويستبيحون الدماء المعصومة والأموال والممتلكات ويخونون عهود الله وينقضون مواثيق الأمان مع الأمم ويفتكون بأهل الذمة.
ومن ينعم النظر ويمعن الفكر في تطبيقات بعض السلفيين اليوم يجدها تتناقض مع مبادئ سماحة منهج السلف الصالح وهم المشوه الأكبر للمنهج السلفي شرعة ومنهاجاً، ولا أدل على ذلك من تطبيقات ابن تيمية العملية التي لم تختلف عن تنظيره الفقهي، فلم يحكم على من كان يراهم واقعين في البدعة بالقتل واستباحة الدماء كما يفعل الحركيون اليوم، ولم ينتقم لنفسه: «ومن كلامه رحمه الله فيمن آذوه، في رسالة كتبها لأصحابه في العقود الدرية: «فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي»، بل إن بعض هؤلاء المبتدعة حكموا على شيخ الإسلام ابن تيمية بكفره واستباحة دمه، ومع ذلك لم يحكم عليهم بالقتل، ومن هؤلاء: ابن مخلوف، فإنه كتب إلى السلطان قائلاً عن ابن تيمية (العقود الدرية): «يجب التضييق عليه إن لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره»، وطالب عدد من العلماء في عصره بقتله كما ورد في كتاب الجامع لسيرة ابن تيمية، ومع ذلك كله لم يحكم ابن تيمية باستباحة دمائهم، بل قال عن ابن مخلوف (مجموع الفتاوى): «وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط. ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور. فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين»، وقال ابن مخلوف بعد ذلك منصفاً شيخ الإسلام كما في قول ابن كثير في (البداية والنهاية): «فها هو ابن مخلوف يقول :»ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا».
وحينما أراد السلطان ابن قلوون من ابن تيمية أن يُصدر فتوى يحكم فيها بحل دم الفقهاء المبتدعة ممن اختلفوا معه في الصفات ونصروا ابن عربي والذين آذوه وأفتوا بقتله، فأنكر ابن تيمية ذلك أشد الإنكار، وقال للسلطان (البداية والنهاية): «إنك إن قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء». وعندما غضب السلطان على الشيخ البكري المالكي فأراد الانتقام منه وقتله، توسط له ابن تيمية وسعى إلى تخليصه من المحنة التي وقع فيها مع أنه كان من أشد الناس الساعين إلى قتل ابن تيمية، ومن أشد من تبنى القول بجواز الاستغاثة بالأموات، وكل ذلك يؤكد أن شيخ الإسلام أجل وأسمى مما اتهموه به، فلا أحرص منه على جمع الكلمة وحقن الدماء، قال في مجموع الفتاوى: «والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة. وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتفاق كلمتهم واتباعًا لما أمرنا به من الإعتصام بحبل الله»، وقال ابن القيم في مدارج السالكين يصف أخلاقه: «وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضى عنه»، وليس أرحم منه بخصومه، قال في مجموع الفتاوى: «وكان من مدة لما كان القاضي حسام الدين الحنفي مباشراً لقضاء الشام أراد أن يحلق لحية هذا الأذرعي وأحضر الموسى والحمار ليركبه ويطوف به فجاء أخوه عرفني ذلك فقمت إليه ولم أزل به حتى كف عن ذلك وجرت أمور لم أزل فيها محسناً إليهم».. وكيف يكون شيخ الإسلام ابن تيمية كما اتهموه بسفك الدماء وهو بطل هذه القصة مع مخالفيه المبتدعة في العقود الدرية: «واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس وقال له بعضهم يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا. فقال لهم الشيخ لأي شيء قال لأجلك فقال لهم هذا ما يحق، فقالوا نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم هذا ما يحل قالوا فهذا الذي قد فعلوه معك يحل هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم علىا فعلوا، والشيخ ينهاهم ويزجرهم»، وما أشبه هذه الأخلاق بأخلاق الإمام أحمد بن حنبل حينما جاءه فقهاء بغداد ليأذن لهم بالخروج فنهرهم وقال: اتقوا الله في الدماء.
بل إنه يظهر تسامحه في قوله في المجموع: «وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً»، وخير ما ينفي عنه التكفير عبارة الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: «وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم».
وهناك شخصية أخرى لا تقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية تم الافتراء عليها وتحميلها وزراً كبيراً هي منه براء ألا وهو إمام الدعوة محمد بن عبدالوهاب، وعطفاً عليه فإن تحميل الدعوة الإصلاحية ما لا تحتمل واتهامها بالتكفير والتشدد والتحريم أمر يتنافى مع حقيقتها فمن يقرأ مقالات أئمتها يجد الضوابط الشرعية وسد منافذ التكفير إلا في النطاق الضيق الذي يؤيده المنهج النبوي القويم، فهي فرقت بين الكفر وبين فاعله، كما أنها براء من تجاوز الأتباع وغلوهم ففرق بين منهج السلف الصالح والسلفيين كما هوالفرق بين الإسلام والمسلمين، وهذه النصوص تبين وتؤكد براءته مما ألحق به من تهمة التكفير واستباحة الدماء، قال رحمه الله عز وجل ما نصه: «وإذا كنا لا نكفر مَن عَبَد الصنم الذي على قَدْر عبدِ القَادِرِ، والصَّنَمَ الذي على قَدْر أحمد البدوي وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم مَن يُنبِّئُهم، فكيف نُكَفِّر مَن لا يُشْرِك بالله». وقال رحمه الله عز وجل ما نصه: «وأما ما قال الأعداء عني: إني أكفر بالظن وبالموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم». وقال رحمه الله عز وجل ما نصه: «وأما التكفير فأنا أكفر مَن عَرَف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سَبَّه، ونهى الناس عنه، وعادى مَن فعله، فهذا الذي أكفره، وأَكْثَرُ الأمة -ولله الحمد- ليسوا كذلك». وفي هذا ردٌّ على افتراء مَن يقول: إن الإمام محمد بن عبدالوهاب يرى الناس كلهم كفارًا إلا نفسه.
إن تطبيقات الشيخين العملية تدل على طريقتهما المنهجية في الفهم والتطبيق على السواء، فهذا هو ابن تيمية على بيانه للحق والمنهج الصحيح إلا أنه لم ينازع الأمر أهله وحافظ على منزلة ولي الأمر الذي تصلح به أحوال الأمة وضرب تطبيقات سلوكية سلفية فريدة -ما أحوجنا إليها- مع خصومه من داخل الصف الإسلامي ليعطي صورة حقيقية للسلفية الفريدة المراعية للمآلات ومناط الأحكام والأخلاق والقيم الإسلامية، وسار على ذلك المنهج فيما بعد إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي مكن الله لها ولا يضيرها من انتسب إليها من التلاميذ الذين ساروا على غير منهجها فيما بعد، فهي دعوة إصلاحية تهتم من جانب بالعقيدة الصحيحة الخالية من الشرك والبدع والضلالات والخرافات ومن جانب آخر اهتمت بجمع الكلمة حول إمام واحد وأغلقت أبواب الخروج والافتئات عليه وقررت النصح له بطرق شرعية تحفظ للأمة هذا الهدف السامي، وخطاب الشيخين ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب يتواءم مع مرحلتهما الزمانية وبخاصة أن لكل زمان ومكان الخطاب الذي يليق به وفق ثوابت الشريعة، وما كان صالحاً للاجتهاد فقد قام به شيخ الإسلام ووسعته هذه الدعوة على مر تاريخها ولا أدل على ذلك من هذا الاجتهاد الفقهي المتنوع بين رجالاتها، بل فتحت باب الاجتهاد والتنوع بين المذاهب دون تقيد بمذهب واحد ولا أدل على ذلك من هيئة كبار العلماء الموقرة.
وأخيراً ما أصدق قول الحطيئة:
أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبُنَى
وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أَبَا لِأَبِيكُمُ
مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا الْمَكَانَ الَّذِي سَدُّوا
والله من وراء القصد،،،