د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ركاكة الأسلوب وضعفه سمةٌ غالبةٌ لدى كثيرٍ من الباحثين والمؤلفين، وكل ما يجدونه من مشرفيهم أو نقادهم مجرَّد الإشارة إلى هذه الإشكالية، والتوجيه بتحسينه وتجويده من خلال القراءة لمجموعةٍ منتخبةٍ من المؤلفين المتميزين على مستوى اللغة والأسلوب والصياغة، فإنَّ إدمان القراءة لأمثال هؤلاء يساعد الباحث على الارتقاء بأسلوبه وتجديد مفرداته. ولا شك أنَّ هذا التوجيه مهم جداً في تقوية الأسلوب الضعيف، وتجويد اللغة الرديئة، غير أنَّ هناك مرحلةً قبل ذلك ينبغي الالتفات إليها والانطلاق منها في حلِّ هذه الإشكالية، وهي التعرف على ماهية الأسلوب ومفهومه ومكوِّناته، واستيعاب تصوره، ومعرفة نشأته وتطوره، والنظر في رؤى العلماء والنقاد فيه، حتى يمكن للباحث معرفة ما يعمل على معالجته، وهو ما تنبَّه بعض الباحثين الذين سأحاول فيما يلي تلخيص ما قالوه في هذا الشأن.
إنَّ أول ما يجب معرفته هنا هو أنَّ مصطلح الأسلوب من أبرز المصطلحات التي اختلفت الآراء في تحديد مفهومها قديماً وحديثاً؛ مما أدى إلى غموضه وإبهامه، فإذا ما تأملنا في واقع استخدام الناس له رأيناه عاماً مرناً يتصل بالصياغة اللفظية أو التعبير اللغوي، أو بالثقافة وسعة المعرفة، وبناءً على هذه المفاهيم العامة يصفون أسلوب الكاتب بالروعة أو السلاسة أو التعقيد أو الرقة أو الضعف أو الركاكة، دون أن يكون هناك معايير دقيقة وواضحة لاختيار هذه الأوصاف، ثم إنَّ بعضهم يطلق الأسلوب على الأجناس الأدبية، وآخرون يطلقونه على المنهج الذي سار عليه المؤلف في تأليفه، وهكذا تتعدد الرؤى والمفاهيم لهذا المصطلح الذي اختلط حابله بنابله فلم يعرف له حدود ولا معايير، وإذا كان الأمر على هذه الحال فكيف يُنتظر من الباحث أن يعالج إشكالية أمرٍ غير واضحٍ في ذهنه أصلا! وعلى الرغم من سعي كثيرٍ من الباحثين إلى معالجة هذا الغموض، وتناولهم موضوعاتٍ كثيرة تتصل بالأسلوب؛ كالحديث عن صفاته وارتباطه بالبلاغة واللغة، إلا أنَّ المفهوم ظلَّ يعاني ارتباكاً وقلقا، ويحتاج إلى مزيدٍ من الدقة والتحديد، والكشف عن أسباب الاضطراب والتخبُّط الذي صاحب الأسلوب، وصولاً إلى تصورٍ واضحٍ ودقيق، يوفِّق بين التصورات القديمة والنظريات الحديثة.
وإذا شئنا أن نفعل ذلك فلا بد من العودة إلى الجذور القديمة لتصورات الأسلوب عند القدماء، وكيف فهموه وعالجوه، فعند الغربيين نرى أرسطو يقول: «حقا، لو أننا نستطيع أن نستجيب إلى الصواب، ونرعى الأمانة من حيث هي، لما كانت بنا حاجةٌ إلى الأسلوب ومقتضياته، ولكان علينا ألا نعتمد في الدفاع عن رأينا على شيءٍ سوى البرهنة الحقيقية، ولكنَّ كثيراً ممن يصغون إلى براهيننا يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم، فهم في حاجةٍ إلى وسائل الأسلوب أكثر من حاجتهم إلى الحجة».
كما يرى أرسطو أنَّ الخطيب يجب أن يراعي ثلاثة أشياء: وسائل الإقناع، والأسلوب أو اللغة التي يستعملها، وترتيب أجزاء القول. وواضح من هذا أنه يرى الأسلوبَ وسيلةَ الصياغة اللفظية البليغة التي تقابل طريقة البرهنة في الكلام، كما أنه نوع اللغة التي يستخدمها المتكلم أو العبارات التي يختارها للتعبير عن أفكاره.
ثم تطور مفهوم الأسلوب في الأدب الأوروبي واتسع مدلوله ليتجاوز اللفظ والمعنى من حيث كونهما مرتبطين معاً ارتباط الجسد بالروح، ليشمل كل العناصر التي ترتبط وتتشابك في وحدةٍ كاملةٍ وتؤلف عملاً فنيا، ولم يعد الأسلوب كالثوب الذي يلبسه الإنسان، وإنما هو عظمه ودمه وكل جسده.
ورأى بعض المفكرين أنَّ الأسلوب انحرافٌ عن النمط المعياري المنظور له على أنه نمطٌ معياري، أو أنه إضافات له، أو خواص متميزة متضمنة في السمات اللغوية تتنوع بتنوع البيئة والسياق، وهذه النظرة تلتقي مع مبدأ (التجاوز) أو (المجاوزة) الذي ينطلق من تصور خطٍّ محوريٍّ يمثِّل المعدل العادي للاستخدام اللغوي، واعتبار مجاوزة هذا الخط المحوري الافتراضي بداية الأسلوب، كما أنها تلتقي مع ما أشار إليه رولان بارت من أنَّ الأسلوب هروبٌ من السمات العامة في الأجناس الأدبية لتحقيق السمات الفردية للمؤلف.
ورغم كل هذا لم يتمكن الدارسون الأوربيون من الوصول إلى مفهومٍ ثابتٍ موحَّدٍ للأسلوب، وإن كان مرتبطاً بالصياغة اللفظية والصفات اللغوية الشكلية للكلام لدى القدامى منهم، أما المحدثون فقد أضحى عندهم أكثر تشعباً والتباساً وتعقيدا، ولعلَّ ذلك من أسباب نشوء الأسلوبية وتطور قضاياها، وقد أدرك رولان بارت هذه الإشكالية، فشبَّه الأسلوب بنفحة الزهرة القادمة من الطبيعة، يتم التمتع بها دون أن يلتمس لها بالضرورة معنى.
هذا عن الأسلوب في الأدب الغربي، فماذا عنه في الأدب العربي؟ وهل تمكن نقادنا العرب من تحديد مفهومه؟ و ماذا قالوا عنه؟ وكيف عالجوه وتعاملوا معه؟ وما المنزلة التي حظي بها في ممارساتهم؟ هذا هو موضوع الجزء القادم.