تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
ويعود الغموض الكامن في البنود الخاصة بالدين، بدرجة كبيرة، إلى مشاركة شخصيات دينية محافظة وتتمتع بالدهاء في اللجنة الأولية لصياغة الدستور. (6) وكان أبرز عضو في تلك اللجنة هو الشيخ محمد بخيت، مفتي مصر الأسبق، الذي قاد معارضة عنيدة داخل اللجنة ضد الاعتراف الدستوري بحرية المعتقد الديني، مدعيا أن ذلك سيسهل ظهور أفكار منحرفة في المجتمع من شأنها أن تضر بمنزلة الأديان السماوية. وبدلا من ذلك، اقترح بخيت النص التالي: «حرية الاعتقاد مطلقة» وعندما سُئل من قبل أحد أعضاء اللجنة إذا كان ذلك يشمل حرية المعتقد الديني، أجاب بخيت: «الاعتقاد شيء والدين شيء آخر مختلف؛ فالمسلمون ينقسمون إلى 73 فرقة مختلفة. وكل فرقة لديها اعتقاد معين بالرغم من أنهم جميعا ينتمون إلى الدين نفسه». وساند ذلك الاقتراح البطريرك القبطي يوأنس، وجرى لاحقاً اقتباسه بالإجماع من قبل اللجنة. (7)
وكشفت التناقضات القانونية المتنوعة في الدستور، بخصوص منزلة الإسلام في الدولة أو النظام الملكي أو الحكومة البرلمانية البازغة حديثا، أن الدستور كان نتيجة مرسوم حكومي بدلا من عملية تطورية. وكان هذا الأمر واضحاً لبعض المعلقين المصريين في ذلك الوقت؛ مثل محمد حسين هيكل، الذي قال في دردشة مع دبلوماسي بريطاني في عام 1926، إن الدستور جاء في وقت «أبكر مما ينبغي» في عملية التنمية السياسية في مصر. (8) وفي الواقع، كانت شعبية الليبرالية الوطنية في مصر في المقام الأول ظاهرة سياسية، وليست أيديولوجية واسعة النطاق. لقد كانت مرتبطة بالنضال من أجل الاستقلال؛ ولكنها فشلت في جذب التزام المجتمع بجوهرها. وأدى هذا إلى تأثير عميق تجلى في تقييد الخطاب الثقافي بين الحربين العالميتين في مسائل الدين. وجاءت الشخصيات الرئيسة التي نفذت هذا الخطاب من خلفيات تعليمية واجتماعية متنوعة، إلا أنها كانت تنتمي إلى الجيل نفسه الذي شهد التغيرات الاجتماعية-السياسية التي حدثت في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وكان من ضمنهم كتّاب مثل طه حسين وعبد القادر المازني وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم. وكان تفكيرهم متجذراً في الولاء لمفهوم كيان مصري مستقل، وفي الإيمان بالعقلانية والسيادة الوطنية والحرية المدنية. وكانت معظم كتاباتهم تركز على عرض جديد للتاريخ المصري، مع تركيز على التراث الفرعوني بدلا من التراث الإسلامي. وكانوا يهدفون إلى تصوير مصر عبر صورة جماعية جديدة على أساس إقليمي مع الانفتاح على الحداثة. (9) ولكنهم لم يفصلوا في الواقع أنفسهم سياسياً عن تراثهم الإسلامي، وهو ما يشير إلى أن العلمنة الكاملة (من حيث استبعاد الدين عن الشؤون العامة وليس الإلحاد) لم تكن ممكنة ولا مرغوبة، وبخاصة في سياق الالتحام الوطني وبناء الدولة. وتم تهميش الكُتاب الذين دعوا إلى العلمنة الكاملة للمجتمع من الخطاب الثقافي السائد الذي واصل إبداء ولاء عاطفي للتقاليد. (10) وكانت أغلبية الكتّاب المتمردين فكرياً ليسوا مسلمين، مثل سلامة موسى وإبراهيم المصري اللذان اعتبرا الإسلام عقبة تمنع دمج الأقليات دمجا عادلا في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر. وكان أبرز كاتب مسلم ضمن قلة من الكتاب المسلمين المنتمين إلى هذا المعسكر هو الشيخ علي عبد الرازق.
تمرد علي عبد الرازق:
كتاب «الإسلام وأصول الحكم»
لقد كان علي عبد الرازق (1888-1966) ينتمي إلى عائلة من ملاك الأراضي، وكان ابن أول رئيس لحزب الأمة الذي بشّر بحزب الأحرار الدستوريين. تلقى تعليمه في الأزهر وتعلم لفترة وجيزة في جامعة أكسفورد، حيث درس الاقتصاد والعلوم السياسية (1912-1913)، ثم عاد إلى مصر، وعُين قاضيا في المحكمة الشرعية في المنصورة. وفي عام 1925، نشر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذي عالج فيه قضية النظام السياسي النموذجي في العالم الإسلامي، وأكد عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، أي أن الإسلام كان مجرد دين وليس دولة، ولا يتضمن نظاماً محدداً للحكم الدنيوي؛ وهو ما أثار انتقادات حادة في الأزهر قلعة الإسلام المحافظة، وسحب الأزهر لقب عالم وشهادة العالمية (الدكتوراه) من عبد الرازق، كما أجبره على الاستقالة القسرية من منصبه كقاض.
لقد صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» على خلفية قضيتين رئيستين تتعلقان بعلاقة الدين بالدولة:
(أ) الجهود المستمرة من قبل مفكرين وطنيين مصريين، منذ نهاية القرن التاسع عشر، لترسيخ مفهوم للسياسة باعتبارها نشاطا علمانيا حرا ومستقلا وخاليا من الاعتبارات الدينية، وقادرا على رعاية دولة قطرية مصرية؛
(ب) قضية الخلافة والزعم بأن إحياءها ضرورة للمسلمين والتي كانت محوراً للنقاش العام داخل مصر وخارجها بعد إلغاء أتاتورك للخلافة في عام 1924؛ فقد ساندت عناصر سياسية في مصر، بقيادة الملك فؤاد ودعم قوي من الأزهر، دعوة إحياء الخلافة على أساس أن يصبح الملك فؤاد هو خليفة المسلمين. (11)
وكانت مؤشرات كلتا القضيتين واضحة في كتاب عبد الرازق. وكان الكتاب يتضمن فكرتين جوهريتين:
أولاً، كان النبي زعيماً دينياً وليس زعيماً سياسياً، وكان دوره يتلخص في تبليغ الرسالة الإلهية وصنع وحدة دينية؛
ثانياً، يمكن للمسلمين الاستغناء عن الخلافة لأنها ليست جزءاً من العقيدة الإسلامية؛ بل بالعكس أثبت السجل التاريخي للخلافة بأنها تسببت فقط بالضرر للمسلمين وكانت غير فعالة في حفظ وحدة المسلمين. وهذا ما سمح للمسلمين بالتعبير عن الولاء السياسي للدول القطرية المنفصلة وتصريف شؤونهم الدنيوية وفقاً لأفضل الأساليب السائدة في العالم المعاصر، وهي تحديداً الديمقراطية الليبرالية. (12)
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com