سهام القحطاني
فقل لبني أمية حيث حلّوا**
وإن خفت المهند والقطيعا
أجاع الله من أشبعتموه**
وأشبع من بجوركم أجيعا
بمرضى السياسة هاشمي**
يكون حيّا لأمته ربيعا
-الكُميت الأسدي-
حسبما أعتقد أن «الفتنة السياسية» التي عصفت بالمسلمين بعد وفاة الرسول الكريم لها علاقة تلازمية «بأزمة الهوية» ولكن قبل الاستطراد في هذه المسألة نقف أمام باب القول الآتي:
يرتكز النظام السياسي في الإسلام على قاعدة الشورى، وهي قاعدة تشترط الأفضلية والتكاملية وهو اشتراط يلغي تأثير أي خلفية قائمة على التمييز العرقي، وذلكم أمر أوضحه الخطاب القرآني، ولذا لم يرغب الرسول الكريم قبل وفاته أن يمس بأصل تلك القاعدة.
أما إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمسلمين أثناء مرض الرسول الكريم بأمره والذي اعتبرها الكثير من الصحابة إشارة منه عليه أفضل الصلاة والسلام لتفويض سياسي استباقي لأبي بكر لرئاسة وقيادة المسلمين بعده، ما هي سوى اجتهادات من قِبل الصحابة، وأن مسألة إمامة الصديق رضي الله عنه للصلاة ما هي سوى الاستحقاق الضروري لتاريخ الصديق الإسلامي، وهذا التاريخ هو الذي رشحه ليكون أول حاكم للمسلمين في التاريخ الإسلامي.
ولذا يظل السؤال التاريخي لماذا لم يفكر الصحابة في ترشيح أحد الصحابة من الطبقة الأول من غير العرق العربي لقيادة المسلمين و حكمهم بعد وفاة الرسول الكريم أو بعد وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ وأحسبه سؤالا ظاهره فيه رحمة و باطنة جدلية معقدة.
أما ماهي أسباب الفتنة السياسية أو الخلاف السياسي الذي أرهصّ فيما بعد إلى فتنة سياسية امتدت على طول وعرض التاريخ حتى اليوم، فيمكن إيجاز بعضه في الآتي:
التقاطع بين فكرة الخلود والواقع؛ لقد غلبت فكرة «خلود الرسول الكريم» على ذهنية المسلمين سواء تلك الغلبة كانت علانية أو سريّة، رغم الإشارات التي كان يبعثها الخطاب القرآني للمسلمين بقرب «أجل الرسول الكريم» وحتى في أيام مرض الرسول الكريم الشديدة لم تكن فكرة الموت تخطر في بال المسلمين، وهذا ما يدل عليه شدة صدمة المسلمين بموت الرسول الكريم حتى أعظم الرجال عقلا و قوة مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
تواكبت هذه الصدمة مع الفقر الثقافي للعرب في مجال الأنظمة السياسية، وهذا الفقر استحضر أبسط نظام سياسي عرفه العربي وهو «التوريث القبلي» وخاصة و أن فكرة «هوية الأمة لم تنضج كوعي جمعي»؛ ولذا برزت فكرة «تولي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه» قيادة المسلمين ؛لأنه من آل بيت الرسول الكريم، والبديل الأصلي للرسول الكريم، وفي هذا البدلية بالمعادِل إعادة «لإبراز الهوية القبلية العربية».
وهي إعادة تعني تفكيك الأساس الذي بناه الإسلام لقيمة الهوية والانتماء «الأمة»، كما أن ترويج فكرة التوريث هو كسر لأصل النظام السياسي في الإسلام «الشورى».
ولعل مفكرو الصحابة أدركوا خطورة هذا المسار المضطرب وما فيه من إحياء لأفكار جاهلية لو تم اختيار علي بن أبي طالب كرم الله وجه الحاكم الأول لقيادة المسلمين بعدة وفاة الرسول الكريم،» ولكن الحذر لا يمنع القدر».
ولذا قرر الصحابة اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليكون أول قائد للمسلمين وحاكم لهم، وإن كان هذا اختيار ليس فيه ما يلزم الكسر العميق للهوية القبلية.
وهذا القرار قسم فيما بعد الأمة إلى قسمين، قسم رافض لخلافة أبي بكر الصديق وهو القسم الداعم لنظرية «التوريث القبلي» وأن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أحق بالخلافة و القيادة لأنه من آل بيت الرسول الكريم، وهو موقف يرى أن لا حق لأبي بكر الصديق في الخلافة، ولذلك قلت سابقا «الحذر لا يمنع القدر».
والقسم الآخر المؤيد لأبي بكر الصديق فموقفه ينطلق من ركيزتين الأصل السياسي في الإسلام «الشورى»وقد اتفق الكثير من الصحابة على اختيار الصديق، «ويبدو أن نظام الشورى الذي أُتبع في هذه الفترة أشبه بالانتخاب البرلماني اليوم» والركيزة الثانية هي التاريخ العريق الإسلامي لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ومواقفه الداعمة للإسلام.
كما أن هذا الموقف للصحابة -موقف رفض التوريث القبلي- تكرر أيضا مع معاوية بن أبي سفيان عندما أراد أن يأخذ مباركة الصحابة لولي عهده «يزيد بن معاوية» لكن أمر تأثير الصحابة على صناعة القرار السياسي في ذلك الوقت كان قد ضعيفا وخاصة عندما حصرهم معاوية في الحجاز و فرض عليهم ما يشبه «الإقامة الجبرية»، وكان رفض الصحابة للمباركة الدينية لولي عهد معاوية تعود إلى قطع النظام السياسي عن أصله «الشورى» و وإحياء جاهلية «الهوية القبلية».
وما لبثت الفتنة السياسة في الاتساع، بل كانت تتسع تحت الرماد وجاء مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ليزيد شق صف الأمة، شقا كان مرجعه الأساسي إلى إعادة إحياء جاهلية «الثأر القبلي» وبذلك وجد المسلمون أنفسهم أمام التضحية بوحدتهم «كأمة» من أجل «الثأر القبلي»، وقد أدرك علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بعلمه وحكمته خطورة استحواذ فكرة الثأر القبلي على وحدة «أمة المسلمين»، لكن بعض الصحابة الذين لم يتطّهر بعد كامل وعيهم من أفكار الجاهلية استغيبت تلك الخطورة عن رؤيتهم والبعض الآخر اعتزل المشاركة بالرأي، وكانت سلبية الاعتزال تعطيل لأهم خاصية من خصائص صناعة قيمة الأمة «الإيجابية».
لتتحوّل «هوية البنيان المرصوص» في قيمتها «كأمة» إلى مقاطع متفرقة أفسدتها الطائفية والخلاف السياسي لتُنتج صورة مشوّهة لخير أمة أخرجت للناس حتى يومنا الحالي.
«فالأمم المنكسرة خطيئة التاريخ، فلتتأمل كل أمه تاريخها».