مسبحة
حين استوى المجلِسُ،
وجلس الشيخ الجليلُ بجانبي:
دسَّ في يديَّ مسبحتهُ العتيقةَ،
كانت خرزاتها من عاجٍ قديمٍ،
أشفقتُ على نفسي من نظرات العيونِ التي لاحظت ارتباكي،
إذْ لم يسبق لي أنْ سبّحت بمسبحةٍ قط!
وحين لاحظ ارتباكي نبهني:
(تَسلَّ بها تَسلّْ)!!
كانت للتسلية ولم تكُ للتسبيح،
فلقدْ كان للمسبحة مآربَ أخرى:
فالشعراء يعدّون بها أبيات قصائدهم الشعبية، قبل أنْ ينقص بيتا منهم فيخسرون الرهان،
والمؤمنون يعدّون بها الحَسَنات، ونسوا أنّ الله فوق عدّهم
والمقبلون على الدنيا يزينون بها أياديهم!
ذاك ما كان يريده مني الشيخ الجليل!
كنتُ حريصا على حملها ساعة (المقابلة الشخصية)
لكنها انفرطتْ!
تساقطتْ حباتها على الأرض مباشرة
وحين لاحظ صديقي تشاؤمي:
تلا آيات القدر،
وأردف قائلا: لعلها خيرا
كان يشغلني شيء واحدٌ فقط:
كيف أعتذرُ من الشيخ الجليل، عن حبّات مسبحته المنفرطة!
كان صوت الحَبْاتِ يصكُ أذنيَّ حين دلفت بوابة المطار،
بلا مسبحةٍ
وبلا أملٍ أيضا.
فَراسةٌ
تعلمتُ من أمّي:
أنَّ البشر الذين لهم قسماتٌ مستدِّقةٌ
الذين لهم أنوفٌ حادةٌ،
وملامحٌ لا تُبهجُ أبداً،
لا يتفق طالعي وطالعهم أبدا
وحين دلفَ،
كانتْ ملامحه كما ذكرت لي أمي بالضبط!
إنها مزعجةٌ تماما
وحينَ انهالتْ عليَّ أسئلتهُ الساذجةُ:
كنتُ مستغرقا في فراسة أمي
رددتُ السخرية بمثلها!
ويدا أمي تقف بيننا بالضبط،
كانت تخفي ملامحهُ عني.
لملمتُ أوراقي سريعا ونهضتُ
- كنتُ قنطرتهُ هذا الصباح
عَبَرَ بي إلى مكيدة ممقوتة.
لم ألتفتُ حين أخذت أمي بيدي إلى خارج القاعة.
أسرعتُ الخطى وأنفهُ الحادُ يلاحقني:
كان يمتدُ ويتماوجُ ويتعرّجُ بين ممرات الجامعة
وتعثرتُ،
فسقطتْ.
غبار
لَفَحَ الغبارُ بوجههِ الكالحِ
كُل شيءٍ تقريبا..
شعرتُ بأنفاسي تضيقُ
لقد أحرمني لذّة اكتشافِ المدينة للمرةِ الأولى..
لم أجدْ مزارع الزيتونِ التي تاقت نفسي لرؤيتها،
كانتْ أشجارُ النخيلِ الباسقةِ تعتذرُ مني، وهي تتمايل بقامتها الشامخة:
(كنْ كالنخيل...)
يضاحكني محمدُ بوجهه البدوي الناصع البياض
كان رجل المرور يطاردني بصراخه على المخالفين،
احتمى من الغبار بسيارته، حين اكتفى بالفرجة.
يقطع السكون أزيز طائرة مقلعة للتو
لم تكن طائرتي مع الأسف!
أغنية العامل النوبي، لمحمد منير، وهو يتحرّق شوقا لرؤية أهله في النيل،
تثير أشجاني.
كان «محمد الثبيتي» يقفُ أمامي:
يشربُ من قهوتي المُرّة ثم يعانقني وقد هبط من بين نخلتين:
صاحبي ما الذي غيرك!
صاحبي ما الذي غيرك!
... ... ...
د. سعد الحامدي الثقفي - سكاكا - الجوف، 11 ابريل 2017م