د. عبدالحق عزوزي
سبق أن كتبت أن فرنسا ليست بخير. هذا هو الانطباع السائد في الصالونات الفكرية وفي التقارير المؤسساتية الفرنسية البارزة. فالدولة تعاني أزمة ثقة بين المواطن والدولة، ونتذكر أحد الأعداد لمجلة لوبوان الفرنسية Le Point حيث عنونت مجلتها: «كيف تولد الثورات، هل نحن في سنة 1789؟»؛ وكما هو معلوم فالثورة الفرنسية اندلعت عام 1789 في مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية أثرت بشكل بالغ على فرنسا وعلى كل الدول الأوروبية انهار خلالها النظام الملكي المطلق الذي كان قد حكم فرنسا لعدة قرون في غضون ثلاث سنوات. وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات الاقطاعية والأرستقراطية والدينية وبروز الجماعات السياسيّة اليساريّة الراديكالية إلى جانب بروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع. كما تم خلالها رفع ما عرف باسم مبادئ التنوير وهي المساواة في الحقوق والمواطنة والحرية ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الأرستقراطية والسلطتين الملكية والدينية.
الدولة في تلك الفترة كاليوم عاشت مرحلة من انعدام الثقة، وفي تلك المرحلة كانت الدولة تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الربع الذين يطعمون خزينة الدولة، أما اليوم فالدولة تخضع سياسياً للفرنسيين الذين تقوم بتمويلهم.... وحسب العديد من الاستراتيجيين، فكل الفاعلين السياسيين ليسوا في الحركية السياسية الصحيحة وهم غارقون جميعهم في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس....
الملك لويس السادس عشر كان قد خلق نظاماً قوياً شمولياً اقطاعياً. ونفس الشيء يقال عن الجمهورية الخامسة الفرنسية من طرف دو غول De Gaulle: الدولة القوية له... والمصيبة هو أنه عندما تخلق دولة قوية ويحكمها أناس ضعفاء أو لا شرعية لهم. فهنا الكارثة.
كما نتذكر هنا الفضيحة التي كان بطلها مرشح اليمين الفرنسي للانتخابات الرئاسية المنهزم فرانسوا فيون الذي كان يواجه قضية وظائف وهمية مفترضة لزوجته.. فلقد كانت أسبوعية «لوكانار أنشينيه» الفرنسية، أفادت في أحد إصداراتها، أن زوجة فرانسوا فيون، المتهمة بالاستفادة من وظائف وهمية، تقاضت ما مجموعه أكثر من 900 ألف يورو، في إطار العمل كـ»مساعدة برلمانية» أو متعاونة مع مجلة ثقافية.... هاته الفضيحة المدوية زلزلت أكثر فأكثر الثقة القليلة المتبقية عند المواطنين الفرنسيين، فهناك تدمر من العمل السياسي بأسره، وهناك مفاجآت الواحدة تلو الأخرى.
الدولة العميقة الفرنسية تعرف دائماً التصرفات اللا قانونية واللا أخلاقية بل واللا شرعية لفاعليها السياسيين الكبار عندما يقومون باختلاسات ذكية أو بتهربات ضريبية أو بمناورات لإرضاء أتباعهم أو زوجاتهم أو أولادهم... قد يبقى السر مدفوناًَ لسنوات بل لعقود في سجلات بعض مؤسسات الدولة العميقة إلى أن تأتي الفرصة السانحة ليعلن عن المستور ويقضى على الإنسان وأهله، تماماً كما وقع لهيلاري في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن حالتها أخطر وأخطر لأن الدولة العميقة الأمريكية خرقتها بعض من الأدمغة المخابراتية الروسية وأحدثت من النتائج ما لا يمكن أن تحدثه حرب كلاسيكية تقليدية.
المهم إذن، أن الناخبين الفرنسيين سينتخبون غداً الأحد رئيسهم... ولأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، لم يصل لا اليسار ولا اليمين إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية التي عرفت تتبعاً إعلامياً دولياً قل نظيره... فوصل حزب الوسط الجديد برئاسة شاب ذكي اسمه ماكرون، كان يعمل مستشاراً للرئيس هولاند في قصر الإليزي قبل أن يعينه وزيراً للمالية، وقبل أن ينقلب بحرفية وذكاء على الدولة العميقة الفرنسية... ثم وهو ما كان منتظراً وصل الحرب اليميني المتطرف بزعامة السيدة لوبين، وهي تتغذى انتخابياً على حساب الهجومات الشرسة التي تقوم بها على المسلمين وقناعاتها المتطرفة بإغلاق الحدود مع أوروبا ومنع توافد المهاجرين بكل أصنافهم... وصل هذان التوجهان إلى الدورة الثانية، وأنا على يقين بالمناسبة، أن السيد ماكرون هو الذي سيجلس على عرش الإليزي، ولم يصل لا اليمين ولا اليسار إلى الحكم لأن الشعب الفرنسي لم يعد يثق فيهم ولا في أفكارهم ولا في إيديولوجيتهم، وأحدث زلزال في تاريخ الجمهورية الخامسة وفي مصير الدولة الوطنية. ثم المهم من هذا المثال، هو أن مسألة الثقة هي من المحددات التي تطبع مسار تكوين الدولة والمؤسسات.... ولئن كانت المجتمعات السياسية مختلفة من قطر إلى آخر، فإن مدى تماسكها وقوتها على رد الرياح العاتية والمياه الأجاج الجارفة، يكمن أولاً وقبل كل شيء في الثقة.