أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: مِن فلسفةِ (أَمَّا نُوْئِيْلْ كانْطْ): أنَّ اعْتِرَافَنَا بأنَّ شَيْئاً ما جميلٌ: إِنَّما هو حُكْمٌ ذَوْقِيٌّ؛ لأنَّنا لا نَعْتَمِدُ على الفِكْرِ؛ لِنَعْلَمَ مُسْتَنَدَ حُكْمِنا الجماليِّ؛ وإنَّما اعْتَمَدْنا على الْمُخَيِّلَةِ التي تُمَيِّز بين الشُّعُورِ وبين الَّلَذةِ أو الْـكَدَرِ أوْ البرودة؛ فهذا ما لَخَّصْتُهُ مِن كتاب(في الجماليات/ نَحْوَ رُوْيَةٍ جديدةٍ إلى فَلْسَفَةِ الفنِّ) للدكتورِ عليِّ أبي مُلْحِمٍ/ الْمؤَسَّسَةِ الجامِعِيَّةِ للدراساتِ ببيروت/الطبعة الأولى عام 1411هـ: عن كتاب (نَقْدُ مَلَكَةِ الْـحُكْمِ) لِـ(أَمَّا نُوْئِيْلْ كانْطْ) .
قال أبو عبدالرحمن: الجَمالُ وجودٌ فَرْدي في قَلْبِ الفردِ الذي أَحَسَّ في قَلْبِهِ سُرُوراً ولَذَةً من شيءٍ مسموعٍ أو مَرْئِيٍّ سواءٌ أكان الْمَسْمُوْعُ مَثلاً شَبَّابَةَ الراعِيْ الساذَجَةُ ، أم كان موسِيْقَى (بتْهُوْفَنْ) الرَّاقِيَةُ في تصنيفات ذوي الثَّقافةِ الراقيةِ ؛ فذلك الإحساس في النَّفْسِ (؛أيْ الإحساسِ الْـجُوَّانِيِّ): حُكْمٌ بالجمالِ أيضاً ؛ لوجودِه في النفسِ؛ ولا تعليلَ له بالنِّسبَةِ للفردِ الَّذيْ أَحَسَّ به إلا أنه موجودٌ في قَلْبِه؛ وهذا معنى أنَّ الجمالَ نِسْبِيٌّ، وأنَّه فِئَوِيٌّ حَسَبَ ثقافاتِ الأفرادِ، وتَرْبيَةِ عُقُوْلِهم فِكْراً، ودِقَّةِ إدراكٍ وسلامَةِ حواسٍّ.. إذنْ فإن الْـحِسَّ الْجُوَّانِيَّ قد يُعَلِّلُهُ الفردُ حَسَبَ ثقافَتِه، وقد يُحِيْلُ إلى مُـجَرَّدِ إدْراكِه الْحِسِّيِّ بلا تعليلٍ؛ وفي كِلْتَيْ الحالتين فإحساسُه مَرْدوُدٌ إلى مواصفاتٍ في الْمَوْضوعِ الذي هو مَصْدَرُ ما في الإحساسِ؛ وهي مواصفاتٌ في الْمَوْضوع الذي هو مَصْدَرُ مافي الإحساسِ؛ وهي مواصفاتٌ مُسْتَقرَأةٌ تاريخِيّْاً مِن تصنيفِ مستويات الناسِ فيما أسْلَفْتُه عن ثقافاتِهم، وتربيةِ عقولِهم فِكْراً.. إلخ ؛ إذَنْ فإنَّ اِنْسِلاخَ (كانطْ) عن الْمَعْرِفَةِ الفكريةِ والنفسية والتاريخيَّةِ التحليليةِ : إخلالٌ بما يتأتَّى به الحكمُ الجماليُّ، وَغَفْلَةٌ عن الإدراك الفردِيِّ لِما في نَفسِه الْجوَّانيةِ ؛ فالفكرُ وتوابِعُه هو الْمُعْتَمَدُ في الحكْمِ على الذوق الفرديِّ.. إلَّا أنَّ (كانط) على الرُّغم مِن عَبْقَرِيَّتِه: أَخَلَّ بالْمَطْلَبَيْنِ الآنِفَيْ الذِّكْرِ بِحُرِّيَّةٍ سُلُوْكِيَّةٍ لا بضرورةٍ عِلميةِ .
قال أبو عبدالرحمن: لقد لَخَّص (شارل لالو) من مذهب كانط: أنَّ الجميل يكونُ ما يعجبُ عموماً بدون مُدْرَكٍ عقليِّ؛ فصفتٌه أنَّه ليس معرفةً؛ لأنَّنَا لا نعرف شيئاً عاماً إلا بواسطةِ مُدْرَكَاتِنا العقلية، أو أفكارٍ كُلِّيَّةٍ مجرَّدةٍ.. وكرَّر العبارة بقوله:(ميزةُ الحُكْمِ الاستطيقي أنَّه يُقِيمُ ضرورةً ذاتيةً[؛أيْ نفسيةً] ممثلةً تمثيلاً موضوعياً على أساسِ افتراضِ معنىً مشتركٍ؛ فالجميلُ هو ما اعترف الناسُ دون مدرَكٍ عقلي بأنَّه موضوعُ رضاً ضروريٍّ.. انظر كتاب (مبادئُ علمِ الجمال/الاستطيقا) بترجمةِ مصطفى ماهر /ط دار إحياء الكتب العربية لعيسى الحلبي عام 1959م ص 98 - 100.
قال أبو عبدالرحمن: الإحساسُ الجماليُّ في مُعْظَمِهِ انطباعٌ قد لا يستطيع المتذوِّقِةُ تعليلَه، وقد تذهب روعتُه بالشرح والتعليل والتحليل، ولكنَّ حُكْمَنا على الذوقِ معرفةٌ عقليةٌ حِسِّيةٌ نفسيةٌ تاريخيةٌ موضوعُها انطباعُ النفوسِ ومواصفاتُ الْـمَوضوعِ.. والرِّضَى الضروريُّ للناس متعذِّرٌ؛ لاختلافِ ما يُؤْثِّر من الأديان والْمَذاهب، واختلافِ التربية الثقافية؛ ولكنَّ الذي يتحقَّقُ إنما هو مستوىً أَعْلَى من الذوقِ لِفَئَةٍ متميِّزَةِ الثقافةِ، سَوِيَّةِ العقلِ والنَّفْسِ في انطباعات مشتركة لا يتعلق بها حكمٌ ديني أو مذهبي؛ وقيمتا الحقِّ والخير تشهدان للمستوَى الأعلى الأمثل.. وعن الجمالِ الْمَنْظُوْرِ: أَطْلَقَ الْـفَنَّانُوْنَ على أفلامِ القرنِ الْـمُنصرم (سينما أبيض، وأسود)؛ وكان الرَّجلُ الوقورُ المُبْتَلَى بحبِّ الفنِّ في شرقنا العربي الإسلامي مِثْلِي يُشاهِد الأفلامَ على خُفْيةٍ، ولا يشارِكُه في المُشاهدة إلا مَنْ يأْنس له، ويأمن جانبَه من كاتِمي السِّرِّ، ولا يتظاهرُ بثقافته الفنيَّةِ.. ومَن يطَّلِعُ على (مقدمةُ ما لم ينشر) من كتابي (هكذا علمني ورد زورث): يرى ما عانيتُه من مُـجْتَمَعِي (ولا سِيَّما أنني محسوبٌ على رجالِ العلمِ الشرعي تِجَاه ثقافتي في الأفلام !!.. ومَنْ عشِقَ الصورةَ يومها كان عشقُه رومانسياً عُذْرِيَّاً ، وكان أَرْدَأُ أحوالِه أنْ يَصْدَقَ عليه قولُ الله سبحانه وتعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة التوبة/ 102].
قال أبو عبدالرحمن: وبعد الأسود والأبيض رأيت فجاجةً ووحشةً يفرُّ منها أضعفُ المسلمين إيماناً مع قُبْحٍ فني؛ ولذلك حديثٌ يأتي إن شاء الله تعالى.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.