د. حمزة السالم
في الاقتصاد هناك ما يسمّى بالمحتكر الطبيعي. وهي الصناعات أو الخدمات التي تقل كلفة إنتاجها كلما ازداد إنتاجها أو عدد زبائنها، كشركات الكهرباء مثلاً. وهذا النوع من الإنتاج تعمل الحكومات على تنظيم أسعاره مع المحافظة على احتكاريته وعدم دخول منافسين له، لكي لا ترتفع كلفة الإنتاج، وبالتالي ترفع قيمة السلعة على المستهلك. مصطلح الاحتكاري بالطبع، استعاره قرين سبان في وصفه لعملة الاحتياط الدولية التي كانت سابقاً الذهب وأصبحت اليوم الدولار. واستعرته اليوم في مقالي هذا للغة الإنجليزية.
فنحن نرى غياب الإنجليزية في الأماكن والمواصلات العامة في أوربا. وافتخار الفرنسيين والألمان للغاتهم والاعتزاز بها ، أمر مشهور ومعروف. وعلى الرغم من هذا كله فإنك ترى أنّ اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية في المعاملات والمحادثات والكتابات في البنك المركزي الأوربي، الذي يضم تسع عشرة دولة أوربية، ولا واحدة منها - باستثناء أيرلندا - تتحدث اللغة الإنجليزية. فما هو التفسير العلمي لهذا التناقض الصوري العجيب؟
التفسير هو أنّ الدولار واللغة الإنجليزية، هما اليوم احتكاريان بالطبع. الدولار في عالم العملات والإنجليزية في عالم اللغات. فاستخدام عدة عملات في المعاملات المالية الدولية يرفع كلفة المعاملات كما يتطلب الاحتفاظ بكميات من كل عملة في صورة شبه السيولة، من أجل استخدامها عند الطلب وهذا يضيع فرصة الاستثمار الأمثل لها. وهذا يشرح لماذا يغلب الدولار على معظم احتياطيات البنوك المركزية العالمية. والوضع أشد بالنسبة للإنجليزية. فتعلم أكثر من لغة هو أمر غير متيسر على الكثير والاحتفاظ بمترجمين والترجمة إلى عدة لغات هو أمر مكلف وغير عملي.
وهذه الاحتكارية الخلقية لا منظم لها إلاّ ديناميكية تعامل المجتمعات البشرية على ما خلقها الله من طبيعة تسخير الأمثل والأيسر. ولا تستطيع أي حكومة أو حكومات في كسر هذه الاحتكارية أو تنظيمها أو منع منافس جديد لها. وشاهد ذلك استخدام الإنجليزية في البنك الأوربي واستخدام الدولار كعملة احتياط وتبادل دولية من أعداء أمريكا قبل حلفائها.
ولهذا فمقالة اليوم ليس من أجل الاعتراض على استخدام الإنجليزية في مجالاتها التي غلبت عليه بالاحتكارية الطَبَعية التي تتميز بها، ولكن مقالي هو عن تجاوز الحاجة في الاستخدام، حتى غلبت إجادة النطق باللغة على العلم والمعرفة.
فمثل الإنجليزية اليوم في كثير من البلدان وفي بلادنا كمثل من يضع القارئ الجميل الصوت في مرتبة علمية أعلى من مرتبة المفسر العتيق النحرير للقرآن، وهكذا. فقد أصبح كثير من الناس يتأثرون بطلاقة متحدث باللغة الإنجليزية، فيلحقون بهذه الطلاقة النُطقية، الطلاقة العلمية. وتعلم النطق باللغات هو موهبة تمثيلية تقليدية في أصله ولا علاقة بالذكاء فيه. إنما الذكاء والفطنة تكون في فهم النصوص اللغوية.
وبلا شك أنّ طلاقة اللسان عموماً، كطلاقة القلم والبيان لها تأثير إقناعي على المتلقي، ولكن من الخطأ أن يتجاوز هذا الإقناع إلى رفع المتحدث أو الخطيب أو الكاتب إلى مرتبة علمية أو معرفية فوق مرتبته ويهضم حق من هو أعلم منه وأعرف وأنفع. فالحكم العلمي يكون على المحتوى لا على الوعاء. واللغة الإنجليزية واحتكاريتها لجميع العلوم الدنيوية تقريباً، قد أصبحت عائقاً خفياً ومضللاً لا ينتبه له كثير ممن يُقيم المرشحين للأعمال الهامة وما شابه ذلك.