ياسر صالح البهيجان
جدل عارم صاحب ولوج القنوات الفضائية إلى منازل أفراد المجتمع السعودي. المحاضرات والندوات آنذاك كانت تضج بمواقف الرفض والتحريم، لكن الزمن كان كفيلا بإحداث تحوّل جوهري في تلك المواقف، لتتجه شيئًا فشيئًا نحو الاعتدال، قبل أن تبدأ بمباركة إنشاء قنوات توصف بالمحافظة التي يقدر أعدادها اليوم بالآلاف وبكل اللغات، حتى خُصص لها أجهزة استقبال، وشكلت سوقًا مستقلا حقق من خلاله أربابها أرباحًا كبرى تضاهي ما تجنيه القنوات الأخرى.
استيعاب الموقف والتحول من الرفض إلى المشاركة مؤشر إيجابي يدل على تفهم وتعقّل، وإحساس بضرورة مواكبة المنجز العصري، وحتمًا كان درسًا قاسيًا لأولئك الرافضين، وتأكيدًا على عدم جدوى مواجهة قوّة التغيير الذي يشبه الطوفان ولا يمكن التصدي له؛ لأن الامتناع عن القبول سينتح عزلة إنسانية تأباها المجتمعات الحية المجبولة على مسايرة التحولات بوصفها جزءًا من عالم بشري يقود بعضه بعضًا.
«إذن ماذا عن السينما؟»، سؤال يمسّ جوهر التجربة التاريخية، ويستدعي مواقف الرفض التي قابلت بها فئة من المجتمع قضية القنوات الفضائية، هل ستُكرر الخطأ ثم تلحق بالركب متأخرة، أم ستستفيد من تجربتها وتنتج أفلامها المترجِمة لأفكارها بطريقة حضارية تنطلق من واقع العصر وتقنياته؟، تظل التساؤلات معلقة، رغم أن الإجابات الأوليّة تكشف عن اجترار الموقف السلبي ذاته، وطغيان الخطاب الوجداني على الخطابات العقلية الجديرة بالطرح والتبني في زمن متعولم لا سبيل فيه للتلكؤ أو التسويف في اتخاذ القرارات المنسجمة مع التحولات الفكرية الراهنة وما فرضته ثقافة الصورة من قوة ذات تأثير يتجاوز إمكانات المقاومة حتى بات مكونًا رئيسًا من مكونات الحياة المدينة وليس ترفًا يمكن الاستغناء عنه.
ثمة مفهوم خاطئ يمثُل في الأذهان عندما تتردد عبارة «الصناعة السينمائية» حتى لتبدو مرادفة للمَشاهد المخلة بالذوق والأدب والمعارضة للأخلاق والقيم، بينما هي صناعة صالحة لكل الاستعمالات، أو يمكننا القول إنها وعاء يمكنك تعبئته بما تشاء، ولا يمكن اتخاذ موقف رافض للوعاء دون معرفة ما يحتويه، ولا حكم مطلق وثابت على الأوعية ما دامت تقبل بأن تملأ بأي شيء، وهي تمامًا كفضاء الإنترنت الذي حمل ملايين المواقع الإلكترونية، والفرد يستطيع أن يختار منها ما يشاء.
لدي إيمان مطلق بأن السينما وإن دخلت إلى مجتمعنا فإنها ستظل مراعية للذوق العام وسمات المجتمع وقيمه الراسخة، وسيخضع ما سيُعرض فيها للتنقية بما يتماشى مع المعايير الأخلاقية، تمامًا كجهود الجهات الحومية في حجب المواقع الإلكتروني المخالفة لتعاليم الدين، لذا لن تشكل الصناعة السينمائية تهديدًا أخلاقيًا على الإطلاق، بل ستوفّر بديلا أكثر سموًا من تلك الأفلام التي تُجلب من الإنترنت بطرق عشوائية ودون خضوع لأي ضوابط.
ما يتبغي فهمه هو أن السينما لا تعني بالضرورة الاعتماد على الاستيراد من الخارج، وإنما ستتيح إمكانات الإنتاج المحلي، وتفسح المجال أمام تصدير ثقافتنا وسماتنا الحضارية التي من شأنها أن تزيل اللبس الذي يكتنف مجتمعنا لدى المجتمعات الأخرى، وهي قادرة على إجهاض الدعاوى الكاذبة التي تلصق التشدد والتطرف بالمجتمع السعودي، وأجزم أن فيلما واحدًا قادر على إحداث نقلة نوعية في الصورة الذهنية المتكونة لدى الآخر عنّا، وهي ستغني عن ألف خطب عصماء، ومئات القصائد المعلّقة، لأنه لا صوت يعلو على ثقافة الصورة في زمننا الراهن.