عبدالعزيز السماري
قد تحصد مفردة فساد على الكلمة الأكثر تداولاً في ما يُكتب من كلمات خلال هذا العصر العربي الباهت، وقد يكون في ذلك موقف مناهض لثقافة الفساد في المجتمع، والتي أصبحت المتهم الأول فيما يحدث في واقعنا العربي من بؤس وفقر وفوضى منذ الاستقلال..
الفساد بأبسط الكلمات هو حالة الاختلال في موازين السلطة في المجتمعات.
يلوح في الأفق تحرك رسمي جاد في اتجاه مواجهة الفساد، وسيكون بلا جدال الطريق الأقصر للوصول إلى الأهداف المرسومة، لكنها صراع قد يطول، لأنها قد تكون في حد ذاتها معركة مع الذات، فالفساد وصل إلى العقول في مختلف الفئات، وأصبح عند بعض المسؤولين رزقاً كتبه الله عز وجل لهم من دون العالمين.
لكن السؤال هو كيف تغلغل الفساد إلى عقولنا، وكيف تحولت الفضيلة بكل ما تعنيها الكلمة إلى رمز للفساد، وكيف أصبحت الوجاهة الاجتماعية غطاءً تمر من خلال أوجه الاستغلال وقنوات الفساد، وربما تختزلها تلك المقدمات والذرائع التي تبرر الفساد شرعاً.
أسهم تحول الدين من أخلاق ومكارم إلى أبعاد أيديولوجية وعقائد متنافرة في وضع اللبنة الأولى في الأرضية الصلبة لثقافة الفساد، والعقيدة مفهوم دوغمائي لا علاقة له بقضية الإيمان بالله، لكنها رسالة سياسية لها أهدافها ومنافعها، وتعني فلسفياً أن البعد الأيدلوجي هو الأهم في قضية الصلاح..
وكما قال ابن القيم - رحمه الله -: (قبور فساق أهل السنة روضة من رياض الجنة، وقبور عباد أهل البدع حفرة من حفر النار)، وهي مقولة تتكرر عن الطوائف الأخرى، ولكن باختلاف في الترتيب، وهو ما فتح الباب لفساد الأخلاق مع شرط الاحتفاظ بـ «صحة العقيدة».
ولهذا تنتشر مقولات مثل (إذا صحَّت عقيدة المرء صح عمله، فسعد بهذا العمل الصالح، وإذا فسدت، فسد عمله)، وبالتالي أصبح الموقف من المرء أياً كان هو بحسب عقيدته، وليس بحسب نزاهته في العمل وما يقدمه من أعمال وتفانٍ في حياته.
كان مفهوم النهي عن المنكر موقفاً مدنياً يحث عليه الدين، وكان له جذور قبل الإسلام، وكان التحول الأكبر في ترسيخ ثقافة الفساد عندما تم إعفاء أصحاب المسؤولية من المحاسبة تحت ذريعة اتقاء شرهم، فكانت البوابة التي لجأ إليها صغار القوم لاقتسام الغنيمة مقابل الأمن، ومن ثم اجتياحها للمجتمع من البوابة الأعلى إلى أدنى درجات السلم.
نحتاج إلى كم هائل من الثقافة لمواجهة الفساد المالي والإداري، فالقضية لا يمكن مواجهتها من خلال أصوات إعلامية، ولكن بقرار حازم من أعلى سلطة مدنية في البلاد، وهو ما يعني أن الوطن في طور الخروج من عصور التلاعب بالكلمات والمواقف والأيدولوجيا إلى الشفافية والوضوح...
ستكون تلك الخطوة أهم درس في طريق إصلاح العقل، وستكون له آثار إيجابية كبرى على الناس، وستكون فيه نهاية لعصر الجدل الذي بدأ في عصر الفتنة الأولى، وما زال قائماً إلى يومنا هذا، ويتصدر عناوين المقالات والكتب..
في القضاء على أبواب الفساد وفلسفته وذرائعه وتبريراته، حياة أفضل وأكثر استقراراً للشعوب، ومن أجل ذلك يجب أولاً مواجهة الذات، وبدء مساءلة النفس عن فسادها، وعندها ربما قد نكون خطونا أول درجات السلم نحو صحة العقول وأمن الأوطان.