د. خالد عبدالله الخميس
في علم النفس، عندما تهيمن على النفس مشاعر سلبية متأصلة، فإنها تلجأ لافتعال مشاعر حميدة بشكل متكلف من خلال سلوكيات سميت بميكانزمات الدفاع النفسية mechanisms of self defense، فميكانزمات الدفاع عن النفس هي محاولة من النفس لخداع نفسها بتغطية مشاعرها الكريهة وتظاهرها بالمشاعر الحميدة، فتظهر النفس بغطاء السواء شكلياً رغم أنها مضطربة فعلياً. وحينما تلجأ النفس لتغطية مشاعر الاضطراب وخداع نفسها فإنها تتجاهل حيلة خداعها وتتجنب كشف خيوط الحيلة. فمثلاً في حال الاضطرابات النفسية تجد أن المكتئب الذي يشعر بمشاعر الضيق والكدر يلجأ للضحك والمرح كي يشعر نفسه قبل أن يشعر الآخرون بأنه سعيد وغير مكتئب، كذلك يلجأ من يعاني من مشاعر النقص بالقيام بسلوكيات جريئة كي يشعر نفسه قبل أن يُشعر الآخرين أن ثقته بنفسه عالية، وكذا يلجأ من يعاني من مخاوف وقلق إلى القيام بسلوكيات بطولية ليشعر نفسه أنه شجاع وليس خوّافا.
هذا التحدى الداخلي هو ثمرة لحوار داخلي بين مشاعر سلبية من جانب وإرادة مثالية من جانب آخر، فمشاعره الدفينة من جهة تُشعره باختلال المزاج واضطراب القلق، وإرادته العليا من جهة أخرى تحاول دفعه للقيام بسلوكيات استثنائية معاكسة لما عليه مشاعره السلبية، وكأن تلك السلوكيات الاستثنائية جاءت لتدافع عن الذات وتقول لها: أنا سوية ولست مضطربة والدليل على سوائي هو تصرفي الشجاع في تلك الواقعة. ومن هنا التصق تعبير ميكانيزم الدفاع عن الذات بالسلوكيات الظاهرية التي تخادع ما في باطن النفس من اضطراب.
ولا تقتصر سلوكيات الدفاع عن النفس على تغطية وخداع الاضطراب النفسي بل هي حاضرة وبشدة عند الروغان من الامتثال للأعراف المجتمعية والممارسات الدينية، فكما أن سلوكيات الدفاع عن النفس هي حيلة على الاضطراب النفسي، فهي أيضا حيلة عند خرق أخلاقياته وقيم المجتمع وهي أيضا كذلك حيلة عند خرق المحرمات الدينية.
لا شك أن هنالك ولله الحمد فئة متدينة بطبعها ومتسامية بأخلاقها ومنظمة لسلّم الأولويات في شأن الحلال والحرام، لكنك أيضاً تجد فئات أخرى من المحسوبين على التدين لكنهم مغشوشو التدين يتلاعبون مع أنفسهم بخلط مخطط أولويات التدين، فيرتبونها بحسب مزاجهم ليظهروا أمام أنفسهم أنهم متدينون وذلك من خلال لعبهم مع وتر ميكانزمات الدفاع عن الذات التي أسهمت بشكل مخادع في اللعب بالأولويات والتغطية على المحرمات، ومن سبل الخداع والتغطية مثلاً تجد فرداً ينفق أمواله على المشاريع الخيرية لكي يُنسي نفسه جرائمه في التعدي على المال العام والخاص، وتجد آخر يلتزم بمظاهر شكلية من التدين كي ينسي نفسه خلقه البذيء مع الآخرين. وكل هؤلاء هم أشبه بمن يرمي أطنانا من الطعام في المخلفات ويعطي لفقير منها رطلاً واحدًا، أو أشبه بالعاهرة التي تزني ومن ثم تتصدق بما جنته من فجرها «لا تزني ولا تتصدقي»، أو أشبه بمن يسرق من المال العام مائة مليون ليبني مسجداً بخمسة ملايين.
أن هذه الحيل النفسية للتدين هي شائعة بامتياز في مجتمعاتنا، قهنالك العديد ممن يمارس محرمات صريحة لكنه يغطيها بالتشبث بمظاهر دينية ليشعر نفسه بالكمال التديني ولكي يعزز صورته مع نفسه بأنه كامل دينياً ينصب نفسه وصياً على إنكار المنكر ولذا لا تستغرب أن ينبعث من أحد مغشوشي التدين كتلة من الهيجان والتخريب لممتلكات الغير كان الذنب فيه أن صوت الموسيقى ارتفع في أحد محلات السوق.
ولن تجد أجمل ولا أصدق من وصف هذا النوع من الخداع النفسي في القضايا الدينية كوصف الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم في وصف الحيل النفسية للتدين بالشرك الخفي وأنها: «أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل»، حيث يعمل المرء عملاً في ظاهره أنه لله ولكن باعث هذا العمل هو لمراءاة نفسه وخداعها بأنها صالحة وتقية.
أحاديث كثيرة حذّرت من الازدواجية مثل «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، والمعنى، إن كنت تكذب وتسرق وتخادع الناس فلا فائدة من صيامك وصدقتك وعبادتك، وعندما تتفحص قول المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) تدرك مدى الخطر الخفي الذي يحدق بظاهرة التدين المغشوش وتدرك بالفعل إلى أين رمى بمفهوم التدين السوي وإلى أي مستنقع من المتناقضات غرق فيها أصحاب التدين المغشوش حيث الغلبة لمظاهر التدين وقشوره على حساب بواطن الدين وأصوله، ونصبح كما قال محمد عبده «وجدت في الغرب إسلاماً دون مسلمين.
أحد اليابانين عندما مكث في أحد الدول العربية، وصف أهلها بقوله: «هم متدينون بشدة، وفاسدون بشدة» وعندما تحلل هذه المقولة المتناقضة من خلال ميكانزمات الدفاع عن النفس تجد أن الأمرين ممكنان: التدين والفساد، فحيث يكون الفرد فاسداً في تعاملاته المادية والإدارية والخُلقية، تجده متمسكاً بشدة بأحد الشعائر التعبدية، فلا عجب أن تجد رجلاً ملتحيا وهو بذيء في خلقه، ولا عجب أن تجد من يتوجس من سماع الموسيقى وهو أكبر الغشاشين، ولا عجب أن تجد من يُقصر ثوبه وهو عنصري بغيض. هؤلاء الذين يجمعون المتناقضات لا يشعرون بالتناقض كون ميكانزم الدفاع عن النفس حاضرة في نفوسهم وبشدة، إذ أنه عندما يتأمل مستوى تدينه ويوازن بين تدينه وسلوكه فإن ذهنه يذهب على تذكر وتضخيم جانب الشعائر التي يلتزم بها ويغفل بشكل مخادع عما ترتكبه نفسه من فساد فادح وسلوكيات مقيتة.
وبالجملة، فإن السلوكيات المنبعثة من ميكانزمات الدفاع عن النفس لا تواكب فقط السلوكيات المضطربة والشاذة بل تمد حيلها وخداعها إلى السلوكيات السوية وكذا الدينية، وعندما تجد أن شعباً متخم بالقيم والأنظمة الأخلاقية وهو لا يمتثلها، فاعلم أنه متخم أيضاً بتحصيات شديدة من أساليب الدفاع عن النفس.
وأكثر شيخ حذر من ظاهرة التدين المغشوش هو الشيخ محمد الغزالي، ولعلي أختم حديثي باختصار من منقولة «وفي تجاربي ما يجعلني أشمئز من التدين المغشوش، وأصيح دائما أحذر من عقباه، فهم يستترون على انفسهم بركعات ينقرونها مقابل فتوق هائلة في بنائهم الخُلقي والنفسي، وهم لا يظنون بالناس إلا الشر، ولا يتربصون بهم إلا بالعقبات، وإن كان للإيمان سبعون شعبة، فهم لا يفرقون فيها بين الفريضة والنافلة ولا بين الرأس والذنب. إن التدين يوم يفقد طيبة القلب ودماثة الأخلاق ومحبة الخلائق يكون لعنة على البلاد والعباد».