د. حسن بن فهد الهويمل
وأتعبُ منه من يُحَاِولُ أَنْ يَأْتي لها بِضَريب.
وطني:-
فَدَتْكَ نُفُوسُ الحَاسِدِين فإنَّها
مُعَذَّبَةٌ في حَضْرَةٍ ومَغِيْبِ
وطني في جفن الردي المتحفز، ومن ورَائه جلد الحسدةِ القاعدين له كل مرصد. ولكن {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}.
وطني على أسلات ألْسِنِةٍ حداد، تفتري الكذب، وتخادع السَّمَّاعين.
وطَني جبل أشم، وكل حُسَّادِه أمواج لاهثة، تتكسر على سفوحه خاسئة حسيرة.
لقد حورب باسم [القومية]، و[الوحدة]، و[الاشتراكية]، و[البعثية]، ووصم بـ[الرجعية]، و[العمالة]، وخُدِع الأغبياءُ المتنخوبون، فقالوا ما قال الحاسدون. وأنفق المناوئون في سبيل بعثرة لحمته الوطنية الجهدَ، والمالَ، وكان ما أنفقوا حسرات عليهم.
حتى لقد ضُرِبَتَ حدودنا. ولما استيأسوا، خلصوا نجيا، لأنهم أدركوا أنّ الوطن الأشم كـ: [... صَخْرةِ الوادِي إذا مَا زُوحِمَتْ].
ولما تعذّر عليهم تسلُّق المحراب، أتوا البيوت من أبوابها، فوجدوا كرم الضيافة، ولطف الصفح. وحين عادت حليمة إلى عادتها القديمة، رجعت بالعار نفسه، وبالخيبات عينها. ولسان حالنا يقول:- {مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}.
وإذ هلك الأولون، فقد تبعهم الآخرون. ولما يزل وطني شامخًا بنظامه الملكي، وبسلفيته الناصعة، وسط التشرذم العربي.
المؤذي أنّ فلول الهزائم لما تزل تَعْمَهُ في غَيِّها، فكل رهاناتها المرجفة تقطع بأنّ المسألة مسألة زمن. وأنّ الدائرة علينا، فنحن جزء من اللعبة، وبانتظار ما يجري في [بغداد] الرشيد، و[دمشق] الأمويين إذ لسنا - على حد ظنهم الذي أرداهم - في معزل عن الفوضى.
وما دروا أنّ العناية الربانية تكلؤ أرض المقدسات، ومهوى أفئدة المسلمين. وأنّ في البلاد من الصالحين المصلحين من لو أقسم على الله لأبَرَّه. المثير للدهشة، وجود خلايا نائمة، كما شويعر [المتنبي]:-
[أفي كلّ يوْمٍ تحتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌ
ضَعيفٌ يُقاويني قَصِيرٌ يُطاوِلُ]
وطننا ماض عتيد، وحاضر مجيد. فوق أصعدته درج الشعراء، وعلى رماله، وجباله تشكّلت حضارة الأمة الإسلامية. وكل الدراسات، والمعاجم، والموسوعات لملمت مادتها من شعابه، وآكامه.
صحراؤه فجرت ينابيع الشعر، وألهمت الشعراء، منذ أميرهم [الملك الضليل]. وعلى رماله درج الرواة، والشعراء الذين ملؤوا الدنيا، وشغلوا العلماء، والمستشرقين، والمؤرِّخين.
والشعراء لا يعيشون في الصحراء وحسب، وإنما تعيش هي في وجدانهم، وأحاسيسهم لتتجسّد في شعرهم موضوعًا يحتل من الشعر ذراه، ومن الشعور أحَرَّه.
صحراؤنا انطوت على كنوز العالم. رمالُها خامات، وصخورها معادن، وباطنها مليء بأثمن الطاقات.
وأنَاسِيُّه الذين تحتوي أرضهم على كل هذه الفنون، وتنطوي على تلك الخيرات، وتحتضن المقدسات لا يحتاجون إلا إلى معرفة الذات، وشحذ الإمكانيات، ليكون إنسانها على مستوى مقدراته.
إننا وسط اللهب، والعناية جعلته بردًا، وسلامًا، وفوق الأمواج العاتية، وعلى السفينة من يريد لها النجاة، ثم لا يسعى لها سعيها، وعلى ظهرها من لا يريد النجاة، ويسعى جهده لإغراقها:- {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
كثير من الآمنين مَكْرَ الله، وكثير ممن يركنون إلى الذين ظلموا، يظنون أنّ المادة وحدها هي سبيل النجاة. وفاتهم أنّ العناية الربانية تدفع الغوائل، وتخيب آمال الحاسدين:- {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
هؤلاء، وأولئك بكل غفلتهم، ورهاناتهم فداء الوطن، وترابه المقدس، الذي درج عليه المهاجرون، والأنصار، واحتضن الجسد الطاهر.
[كعبةٌ] يؤمها الناس. ومآذن يذكر فيها اسم الله. ومساجد تُعَفَّر فيها الجباه تعظيمًا لله. وأمة لا تنسى وعد الله:- {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
ومع هذا فالنجاة لا تكون بالتواكل. ولكنها بالتوكل. والتوكل بالسعي، كالطير تغدو خماصًا، وتعود بطانًا.
إنّ علينا معرفة حسادنا، وطرائقهم في إفساد ما أصلحه الله، لنرسم أساليب المواجهة الناجعة، بحيث ننازل كل حاسد بما يناسب مكائده، وطرق تسريبه الشر إلى فضاءاتنا.
عَهْدُنا أنه كان بإمكان [الدولة] - أي دولة - أن تحمي الأجواء، وأن تأطر السفهاء، وأن تُشِيع الثقافة التي تريد. ولكنها اليوم عاجزة عن مثل ذلك. إذ بإمكان الحسدة المتربصين إنفاذ سمومهم عبر الثغور، والآفاق.
ولم يبق - والحالة تلك - إلا التربية، والتوعية، وتهيئة الوسائل الجذابة التي تشد الانتباه بذكائها، وبراعتها، وحسن أدائها، وتخوُّل عرضها. وإذ لا يكون إكراه في الدين، فلا إكراه فيما سواه.
قدر أمتنا العصيب أنها في لزز التنافس، وجيادها دون المؤمل، وليس لصاحب الحق أية أفضلية. الأفضلية في إعداد القوة:- {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}. فالتحدي، والتصدي، والصمود وسائل متاحة للمحق، والمبطل.
وطننا أمام حَسَدَةٍ ألدّاء، تقعدون له كل مرصد.
لقد أوجفوا بخيلهم ورجلهم، ونوّعوا المعارك، وأتوا مثمناتنا من كل جانب، حتى بلغت القلوب الحناجر.
أليست [حربُ المخدرات] قائمةً على أشدها، تنفذ إلينا من كل جانب، ويقترفها متمرسون، يعرفون أنهم يواجهون عقوبة الموت؟ ثم لا يترددون في التهريب، والترويج.
يخادعون رجال الجمارك، ويراوغون رجال المكافحة، وينوِّعون الوسائل، وهم عصابات قوية منتشرة، يتبادلون الأدوار، ويُغَيِّرون الأساليب.
إنها لون من ممارسة الحسد. والمستهدف بالتدمير الأخلاقي شبابنا الذين يقعون في الإدمان، ثم لا يبالون بشيء بعد ذلك. يقتلون الآباء، والأمهات، وينتهكون أعراض المحارم. ويخيفون الآمنين.
ألسنا مع هؤلاء في حرب ضروس، تستهدف الأمن، والمال، والأرواح، والأخلاق، وتقتنص شباب الأمة.
إنها حرب شرسة ميدانها البيوت، والمدارس، والأسواق. وعدّتها سم زعاف، يتلقاه الضحية، كما لو كان شربة ماء بارد على ظمأٍ.
ثم أليست [حربُ التضليل الفكري] قائمةً على أشدها، تتخطف أبناءنا من حواضن التربية، والتعليم، ثم تلقي بهم في أتون الفتن، يَقْتُلون، ويُقْتَلُون، أو يعتقلون. فيكونون وبالًا على دولتهم التي تحارب الإرهاب في كل الآفاق، وتتعرض له بين الحين والآخر؟.
ثم أليست [حربُ الأخلاق] تنفذ وسائلها إلى مهاجعنا، تضاجع المراهقين من أبنائنا، وبناتنا، عبر القنوات، والمواقع، وسائر وسائل التواصل الاجتماعي؟.
ودعك من [المدِّ الصفوي]، و[التفكك العربي]، و[الكيد الغربي]، و[الافتراء العلماني].
إنه وطن ممتحن، ويظل رهاننا على تماسك جبهته الداخلية، وعقيدته السلفية. وسنظل نردد بثقة واطمئنان:-
[وفِيْ تَعَبٍ مَنْ يَحْسُدُ الشَّمْسَ ضَوْءَها]