د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تختلف الثقافات عن بعضها بعضاً إلى حد كبير ولو تشابهت في الظاهر، فعمق الثقافة تحدده نظم من التصورات والمفاهيم المتوارثة التي تشكِّل النظرة العامة والتوجه الكلي للكون والوجود. وأثبتت الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية أن هذه التصورات تتطور وتتجدد بتقدم وتغير أفرادها ومؤسساتها، وبتطور العلم والتقنية لتتحول لنظم مفاهيمية جديدة مرتبطة بسابقتها. الكهرباء، والطباعة، ووسائل المواصلات، والاكتشافات الرقمية، وغزو الفضاء وغيرها غيّرت العالم بشكل كبير، ومع ذلك التصورات الذهنية البشرية حوله. وقد لا تختفي البنى المفاهيمية القديمة تماماً حيث تعمل مؤسسات اجتماعية وسياسية على استدامتها وتطويرها في سياقات جديدة. وقد شبه أحد الفلاسفة عقل الإِنسان الحديث بمتجر الأثريات تختلط فيه أفكار من مختلف المراحل التاريخية لثقافته على شكل نصوص وتصورات متداخلة.
وتعيد جميع الثقافات تقريباً إنتاج ماضيها في مسعاها للحفاظ على وجودها وللتميز عن غيرها ورفع الروح المعنوية لأفرادها فيما يسمى الحفاظ على الخصوصية والتراث. فالتراث في جوهره ربط لثقافة الحاضر بالماضي. وغالباً ما يضفي الحفاظ على التراث الكثير من التبجيل والمبالغة والعظمة على تاريخ الأمة. وهذا أمر شائع في كل الثقافات حتى البدائية منها. فالماضي يبدو أكثر انتظاماً من الحاضر لأنه مضى وانقضى نفهمه بشكل أكبر من حاضرنا ومستقبلنا، ويمكننا أن نعيد ترتيب أحداثه بالشكل الذي نرغبه. فعندما تكتب أمة تاريخها البطولي فهي توجه رسالة حاضرة ومستقبلية لأبنائها وللآخرين. فالماضي حاضر مضى يعاد نسجه في سرديات منقحة بأسلوب انتقائي ليتحول إلى تراث. وينطبق ذلك على تصور كل أمة عن أحداث تاريخها القريبة ناهيك عن الموغلة في القدم.
فالنصوص التاريخية لا يمكنها أن تعيد إنتاج الماضي كما كان فتسلط الضوء على جوانب منه وتتجاهل أخرى. وتتأثر هذه النصوص اللغوية بالأساليب التي كتبت بها، والأبعاد التي ركزت عليها وأبرزتها. تحسّن ما تحب وتقذّع ما تستنكر. واللغة، والخطابات اللغوية، للخبيرين بها، يستحيل أن تمثل أي ماضٍ أو حتى واقعٍ حاضر بشكل موضوعي محايد. فاللغة مجموعة خطابات في حالة تدافع مستمر. خطابات تبقى أمينة وملتصقة بالأيديولوجيات التي صاغتها وتعيد إنتاجها وتحافظ عليها عبر العصور. وقد استحدث ميشيل فوكو مجال دراسة «علم آثار المعرفة»، معتمداً على حفريات في مواقع لغوية. وكان قرامشي يرى اللغة أداة الهيمنة المعرفية والسياسية الأولى.
تبتسر اللغة النصوص التاريخية من سياقاتها وتسقطها على سياقات الحاضر المعاش، وتتجاهل في ذلك بالطبع النظم المفاهيمية الكلية لأصحاب هذه النصوص الأصليين وواقع معاشهم الفعلي. فيتم تطويع سياقات الحاضر لنصوص الماضي والنتيجة انفصام ثقافي لغوي وغربة نفسية لبعض فئات المجتمع. وقد وصف عالم الإناسة جيمس كليفورد هذه الثقافات «بالثقافات المسافرة عبر الزمن». فالتنوع الثقافي لا يكون بشكل جغرافي أفقي فقط بل وبشكل رأسي تاريخي أيضاً. فمهما تخيلنا أننا امتداد لأسلافنا، تبقى ثقافتهم الحقيقية أشبه بثقافة أجنبية بالنسبة لواقعنا المعاش تحتاج لشروح مطولة لفهمها. ويمكن القول إن هناك غربتين ثقافيتين وليس غربة ثقافية واحدة: الغربة الثقافية الجغرافية، والغربة الثقافية التاريخية. وكما يتهم من تأثر بثقافة جغرافية أخرى في الحاضر بممارسة التغريب: التغريب الثقافي الجغرافي، يمكن أيضاً اتهام من يسقط نصوص الماضي وقيمه بشكل تلقائي على الثقافة الحاضر بممارسة: التغريب الثقافي الزمني أو التغريب التاريخي لأنه يطرح تصوره عن الماضي على أنه حاضر آخر بديل. فاعتماد العقل البشري على أساليب القياس والتشبيه تمكنه من إسقاط كثير من المقارنات بشكل عمودي أيضاً بين الماضي والحاضر. فنحن لم نعش مع أسلافنا ولم نجالسهم، ونسامرهم، ونؤاكلهم ونشاربهم، ولا نعرف ما توفر لهم من إمكانات، ولا نعرف عن قرب وبشكل مباشر ما لديهم من تصورات عامة وكلية عن العالم. وكل ما تعرفه ثقافة عن أسلافها ورثته كنصوص لغوية سافرت عبر مسار تاريخي طويل من الانتقاء والإقصاء، يتلف منها ويحرف فيها أكثر مما يصل كما هو. ولو تصورنا المبالغات التي يمارسها الكبار منا عند الحديث عن طفولتهم لأبنائهم وهي ماضي قريب جدا، لأدركنا طريق الغربة الطويل الذي قطعته النصوص التاريخية القديمة في رحلتها لتصل إلينا.
التغريب التاريخي يزدهر في أوقات الهزات المجتمعية، وتدني الثقافة، وانعدام الإحساس بالطمأنينة للحاضر والثقة في المستقبل. وهو الذي جعل بعض المسلمين اليوم في حالة انفصام شبه تام عن العالم من حولهم، يصرون ويقاتلون لإرغام الماضي ليس على الحاضر فقط بل والمستقبل أيضاً. وبعضهم في حربهم على العالم الخارجي يستحضر نصوصاً لغوية خارج سياقاتها التاريخية كحقائق لا جدل حولها حتى ولو تعلقت ببعض الأمور التي قطع العلم الحديث باستحالتها. فالرومانسية التاريخية التي طُبع بها الفكر الجهادي كان نتيجة حتمية لهذا الإسقاط. ويستند الكثير من العنف المذهبي الإسلامي اليوم إلى تغريب تاريخي واضح على مبالغات وسرديات غالبها خرافي. وتنطق أزياء بعض المقاتلين (المجاهدين) من الحشد الشعبي، وداعش، وغيرهم، والأسماء الحركية التراثية التي يتسمون بها، والشعارات السياسية التي يرددونها، والرايات التي يرفعونها بهذا التغريب. فهي جميعها تنتمي لفترات إسلامية مضت ولا يمكن أن تعود. حقب طويلة من الخطب البلاغية، والنصوص الرومانسية التي تبجل الماضي فقط على أنه فترة الصلاح الوحيد، وتذم الحاضر على أنه عصر الجهل والفساد التام، وتصور المستقبل عبر سيناريوهات تشاؤمية تنذر بالفناء ونهاية العالم والخلاص.