د.أحمد بن عثمان التويجري
في يوم الأحد الموافق للتاسع عشر من شهر رجب من هذا العام توفيت عميدة أسرة الشميسي نورة بنت سليمان بن عبد الله الشميسي - رحمها الله -، وصُلّي عليها عصر الاثنين في جامع الملك خالد بن عبد العزيز - رحمه الله - ودفنت في مقابر الدرعية، تغمدها الله بواسع رحمته وغفر لها ولوالدينا ولجميع أموات المسلمبن. والدها الشيخ سليمان بن عبد الله الشميسي واحد من أعيان مدينة الرياض، أسرته من الأسر النجدية العريقة الذين استوطنوا الرياض منذ القدم، وسمي أكبر أحيائها في بدايات القرن الماضي باسمهم، وزوجها الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرويتع - رحمه الله - من وجهاء الرياض الصالحين الذين عرفوا بالطيبة والنقاء والسيرة الحميدة، أسرته من الإشراف الذين هاجروا من الحجاز إلى نجد قبل ثلاثة قرون.
كانت من فضليات النساء وأرجحهن عقلاً ورأياً. وقد عرفت - رحمها الله - بالتقوى والطهر والعفاف وصفاء السريرة والكرم الأصيل والحرص الشديد على الواجبات الشرعية في العبادات والمعاملات، والأعراف والتقاليد الحميدة. كانت تقيّة عابدة لا يفتر لسانها عن الذكر والدعاء. من فضائلها التي اشتهرت أنها كانت ترعى أسراً ويتامى كثيرين، احتضنتهم مثلما احتضنت أولادها، ولم تنقطع صلتها ورعايتها لهم إلى أن توفاها الله.
كانت طِيبَةً تمشي بين الناس، وقلباً زكيّاً يفيض بالإِنسانيّة والنقاء، من ألطف ما يروى عنها في هذا الشأن، أن إحدى بناتها عندما التحقت بمعهد المعلمات اشترت مما وفرته من راتبها الشهري قرطين ثمينين وكانت فرحة بهما لكونهما من مالها الخاص، فقدتهما ثم رأتهما في أذني إحدى خادمات المنزل، فما كان من والدتها - رحمها الله - إلا أن حذرت ابنتها من أن تعنّف الخادمة أو حتى أن توحي لها بأنها اكتشفت سرقتها قائلة لها: سامحيها واعتبري القرطين صدقة أو هدية منك لها، فإنَّ لها نفساً تحب أن تتزين مثلما لكم أنفس.
مما يستبشر به لها فيما قدمت إليه بإذن الله رؤيا عجيبة رآها أحد الشباب الصالحين من أصدقاء وزملاء أحد أحفادها يعمل في صندوق التنمية الصناعي في الرياض هو الاستاذ سلطان بن محمد الشنقيطي رئيس قسم القضايا في الصندوق الذي عاش هو وأسرته في المدينة المنورة وحفظ القرآن في ساحات الحرم النبوي، حيث يقول في رؤياه: رأيت أنني كنت أسير في منطقة خضراء جميلة بها عدة أشجار على الأطراف وفي الوسط مكان أخضر منبسط خالٍ من الأشجار، وإذا بي أشاهد أناساً واقفين كأنهم يقفون للصلاة ويشرف عليهم أشخاص وسيمون يلبسون ثياباً بيضاء وفي الخلف تظهر منطقة كبيرة بها خيام وأسوارٌ بيضاء وفي مقدمة بوابة الدخول حاجز يمنع من مشاهدة ما خلف البوابة، شدني المشهد فاتجهت إليه لاستكشف المكان وعندما اقتربت وإذا بأحد الرجال الذين يلبسون الثياب البيضاء ينادي باللهجة النجدية «وين نورة ؟ وين نورة ؟» فجاءت سيدتان وقالت كل منهما: أنا نورة، فقال لهما: «وين نورة جدة عثمان؟» فقالت إحداهما أنا، وكانت تلبس عباءة لونها أخضر غامق وطرحة لونها أخضر وأبيض وفي يدها سوارات من ذهب، فقال لها: «تقدمي أنت من الناجين» قالت له: «وش بعد»، فقال: «أنت من الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون»، قالت: «وش بعد» فقال: «انت من الصدّيقات»، فهمّت بالمشي باتجاه البوابة، وعندها استيقظت من النوم».
أَحَقَّاً طَوَى زَيْنَ النِّسَاءِ رَحيلُ؟
وَأدْرَكَ بَدْرَ المؤمِنَاتِ أُفُولُ ؟
وَغَيّبَ سَهْمُ المَوْتِ أم مَسَاعَدٍ
وَلَمْ يَبْقَ ظِلٌ بَعْدَهَا وَمَقِيلُ
فَيَا لَيْتَ شِعرِي كَيْفَ نَسْلُو وَأُنْسُنَا
بِأعْمَاقِ لَحْدٍ مَا إلَيْهِ سَبِيلُ
أَمّالِئَةً كُلَّ القُلُوبِ بِحُبِّهَا
وَمِنْ حُبِّهَا كَادَ الجَمَادُ يَمِيلُ
وَباذِلَةً أغْلى العَطَاءِ كأنّهَا
غَمَامٌ عَلى كُلِّ الأنَامِ يَسيلُ
وَوَاهِبَةً مَنْ رُوحِهَا كُلَّ رُوحِهَا
حَنَانَاً بقَلْبٍ قَدْ دَهَاهُ ذُهُولُ
لَقَدْ كُنْتِ نُورَاً كاسمِكِ العَذْبِ نُورَة
وَشَمْسَاً إلى أَسْمَى الأُصُولِ تَؤُولُ
وَكُنْتِ نقَاءً لا يُكَدَّرُ صَفْوُهُ
وَإنْ جَارَ دَهْرٌ أو أَسَاءَ خَلِيلُ
وُكُنْتِ الرِّضى وَاللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ
وَعَقْلاً لَكَمْ فَاءَتْ إلَيْهِ عُقُولُ
أَرَاحِلَةً وَالقَلبُ صَبٌ مَتَيَّمٌ
وَلَمْ يُشْفَ رَغْمَ القُرْبِ مِنْكِ غَلِيلُ
وَتَارِكَةً هَذِي الجُمُوعَ شَجِيّةً
يُعَاوِدُهَا حُزْنٌ عَلَيْكِ ثَقِيلُ
لِمَنْ سَوْفَ تَشْدو فِي الرِّياضِ بَلَابِلٌ
لِمَنْ سَوْفَ تَزْهُو بِالوُرُودِ سُهُولُ
لِمَنْ سَوْفَ تَزْدَانُ البُيُوتُ بِعِطْرِهَا
وَتُقْرَعُ فِي كُلِّ الدُّرُوبِ طُبُولُ
وَمِنْ ليَتَامَى كُنْتِ بَلْسَمَ يُتْمِهِمْ
وَقَدْ جَارَ ذُو قُربَى وَشَحَّ بَخِيلُ
وَمَنْ لِوِصّالِ القَاطِعِينَ إذا جَفَوْا
وَأوْرَدَهُمْ دَرْبَ الهَلَاكِ جَهُولُ
عَلَيْكِ سَلَامُ اللهِ مَا حَنَّ مُولَهٌ
وَمَا التَاعَ ذُو وَجْدٍ وَأَنَّ عَلِيلُ
وَمَا وَهَنَتْ مِنّا ضُلُوعٌ وَأجْهَشَتْ
قُلُوبٌ لَهَا شَوْقٌ إلَيْكِ يَطُولُ
رحم الله أم مساعد رحمة واسعة وأنزلها منازل الصديقين والشهداء والصالحين، وجبر مصاب ذويها وخلفنا وخلفهم فيها خيراً، وجمعنا بها وبوالدينا وجميع من نحب في جناته،
{وإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.