عبده الأسمري
علم من أعلام الأئمة.. وعالم من علماء الخطب.. صوته «لحن» يطرب الأرواح ونبرته «جمال» تتحف الآذان، و»تلاوته» لذة ناطقة، يقف على أشرف «منبر» بالأرض، ويخطب من «أطهر» بقعة بالمعمورة.. اسمه مقترن بصوت الحق ولقبه مقرون بنطق الذكر. من جيل الأئمة ورعيل الخطباء المعطرين بسمو «المهمة» وعلو «المهنة»، المسطرين لأعظم ملاحم القول وأجمل ملامح الفضل..
إنه معالي رئيس شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الإمام والخطيب والأكاديمي الدكتور عبد الرحمن السديس صاحب السيرة الفاخرة في «الإمامة»، والمسيرة الباهرة في الخطابة في البيت العتيق.. ذلك الاسم الذي ارتبط بالأذهان وترابط مع المكان وهو يقود لواء أئمة الحرم المكي الشريف لسنوات متوشحين الذكر الحكيم قولاً والعلم القويم فعلاً..
بعينين واسعتين تنطقان بالنبل وحاجبين زاداه وقارا، ووجنتين بارزتين تجاورين لحية غامقة السواد تعكس الاستقامة وتؤطر الشهامة، ووجه أبيض ممتلئ يشع نوراً وينبع سروراً، وملامح ودودة تتسامى بين الجد والود وكاريزما إيمانية روحانية معطرة توزع إيحاءات القبول وإيماءات المحبة. وصوت يتقاطر لحناً شجياً يتلو الآيات آناء الليل وأطراف النهار حين التلاوة، ويسمو بلغة عملية مركبة تملؤها عبارات الدعاء واعتبارات العطاء ولهجة بيضاء عصماء تتوارد منها كلمات من القرآن ومفردات من البيان، يطل السديس رجل دولة وصاحب معالي ورفيق أئمة وموجه «جيل» وقائد «مرحلة» وقبلها «إمام وخطيب» بيت الله الحرام اللقب المحبب إلى قلبه، والمنسوج في ذاكرة المسلمين، المسجوع بتلاوة منفردة تشدو بمزمار من مزامير آل داود، وتصدح من حنجرة فريدة هي «هبة» من الوهاب «ونعمة» من المعطي، ليكون صوته حاضراً ناضراً في أرجاء الحرم بجودة التلاوة وتجويد الآيات وإجادة القراءة في صلوات تحفها الرحمة وتحيطها البركات.
كان السديس يصغي لنصائح والديه وإحساسهم بنبوغه الباكر وشعورهم بحبه المبكر للقرآن وخاصته، فارتبطت ذاكرته «الغضة» وقلبه وعقله وهو طفل بتلك الآيات الكريمات التي كان يسمعها تصدح من جامع الحي ويرى في عيني والده تفاصيل «الطموح»، وفي كفوف والدته تفصيلات الدعوات، فظل ملازما لحلقات التحفيظ واستظل بحنان أسري وإتقان ذاتي حيث حفظ القرآن وهو ابن 12 عاماً، بإشراف الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله آل فريان، ومتابعة الشيخ المقرئ محمد عبد الماجد ذاكر، حتى حفظ القرآن الكريم على يد عدد من المدرسين في الجماعة، كان آخرهِم الشيخ محمد علي حسان.
تكونت لديه بارقة فضل القرآن وخريطة فضيلة الشرع، حيث التحق بالمعهد العلمي وحصل عام 1399 هـ على الشهادة بتقدير ممتاز. وفي عام 1403 هـ حصل السديس على البكالوريوس في الشريعة، في عام 1408هـ حصل على درجة الماجستير بتقدير ممتاز من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (قسم أصول الفقه)، ثم حصل في عام 1416 هـ على درجة (الدكتوراه) من كلية الشريعة بجامعة أم القرى بتقدير (ممتاز)، مع التوصية بطبع الرسالة عن رسالته الموسومة (الواضح في أصول الفقه لأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: دراسة وتحقيق) وكان ذلك عام 1416 هـ، وحصل مؤخراً على درجة الأستاذية في تخصص أصول الفقه من جامعة أم القرى.
عمل إماما وخطيباً بعدد من جوامع الرياض وفي عام 1404هـ صدر توجيه بتعيين السديس إماماً وخطيباً في المسجد الحرام وباشر عمله في شهر شعبان من العام نفسه في صلاة العصر، وكانت أول خطبة له في رمضان وعمل محاضراً في قسم القضاء بكلية الشريعة بجامعة أم القرى وأستاذا مساعداً في كلية الشريعة بجامعة أم القرى، وأنشأ كرسي بحث باسمه لدراسات أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وأشرف على مجمع إمام الدعوة العلمي الدعوي التعاوني الخيري بمكة المكرمة ومديرا لجامعة المعرفة العالمية (التعليم عن بُعد).
وصدر أمر ملكي في 17 جمادى الآخرة 1433هـ بتعيينه رئيسا لشؤون المسجد النبوي والمسجد الحرام بمرتبة وزير وخلال هذه الحقبة سجل السديس نجاحات باهرة وإمضاءات متميزة من العمل والإنتاج المشبع بسداد التخطيط ومداد الرؤية في منصب يمثل محفلا تنمويا واحتفال نماء بكل تفاصيله.
نال السديس جائزة الشخصية الإسلامية العالمية الممنوحـة له من جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم (عام 1426هـ).
عبدالرحمن السديس صوت بشري نادر يمتلك جمهورا من المتلذذين بنور القرآن وعبق الذكر ورصيد مديد من التذوق السمعي والروحي والوجداني في قلوب وعقول كل المسلمين في تلاوة ارتبطت بنغمته واقترنت بصوته «الشجي» المذهل وروحه المستنيرة، وجه للإمامة المقرونة بالإبداع والإمتاع حرفا وكلمة وآية وسورة وختمة مباركة.. وواجهة للخطابة المقترنة بفصل الخطاب وعظم الجواب.