د. محمد عبدالله العوين
انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء الماضي 29 من رجب 1438هـ الفقيه اللغوي الحافظ الشيخ محمد بن عبد الرحمن الفرحان القاضي سابقاً في المحكمة الكبرى بالرياض ثم محكمة ضرما ثم رئيساً لمحكمة حوطة بني تميم ثم محكمة ثادق.
ووالده الشيخ عبد الرحمن كان طالب علم تولى القضاء في محكمتي الرين والحريق، وله صلة علم ونسب وثيقة بالشيخ عبد العزيز أبو حبيب الشثري - رحمه الله - وأوكل إليهما الملك عبد العزيز - رحمه الله - أمور القضاء والإرشاد الديني في الرين، ويوثق كتاب «علماء وقضاة حوطة بني تميم والحريق» لمؤلفه الشيخ الباحث عبد الله بن زيد بن مسلم عدداً من الرسائل المتبادلة بين الملك المؤسس وهذين الشيخين الجليلين.
وفي هذه البيئة الدينية والعلمية نشأ الشيخ محمد، وحين انتقل والده الشيخ عبد الرحمن إلى الرياض عام 1370هـ التحق بالحلقات العلمية في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة، وكانت الحلقات بمنزلة الجامعة التي تضم مختلف التخصصات، حيث يتلقى الطالب دروساً في العقيدة والفقه واللغة والعروض والفرائض ويحفظ متوناً مختارة ومنظومات علمية مختلفة.
ثم أجازه الشيخ محمد بن إبراهيم ليلتحق بمعهد إمام الدعوة العلمي بعد افتتاحه، وواصل دراسته الجامعية بكليتي الشريعة واللغة اللتين كانتا تحت إدارة واحدة - آنذاك - وتخرج في كلية الشريعة عام 1383هـ.
ثم تنقل في القضاء خلال ثلاثين عاماً بين أربع محاكم إلى أن طلب التقاعد المبكر لأسباب صحية عام 1403هـ.
رأيت الشيخ محمد بن عبد الرحمن الفرحان لأول مرة حين شرف منزل الوالد - رحمهما الله - في زيارة لطيفة بعد صلاة العشاء بصحبة إخوانه عبد العزيز وسعود وناصر - رحمهم الله جميعاً؛ وكان سني آنذاك صغيراً ربما لا يتجاوز اثني عشر عاماً، ولكن صورة الشيخ بمشلحه الأنيق وهيبته ورصانته ونظراته الذكية وتميزه في الحديث أبقت تلك الجلسة النادرة عالقة في ذهني إلى اليوم..
وعلمت بعد ذلك سر احتفاء الوالد بالشيخ محمد وإخوانه واهتمامه بضيافتهم وترحيبه بزيارتهم؛ فإلى ما للشيخ من منزلة رفيعة في القضاء وكان - آنذاك قاضياً في محكمة الرياض الكبرى - فإن ثمة ارتباط نسب عائلي عميق بين العائلتين.
ثم كان من حسن حظي أن أعمل مع القاضي الشيخ محمد الفرحان كاتب ضبط في العطلة الصيفية بمحكمة حوطة بني تميم سنتين متتاليتين 1393هـ و1394هـ وتنقلت كاتب ضبط بين مكتبه ومكتب الشيخ القاضي سعد بن شايع، ودونت عشرات القضايا ورأيت كيف يستمع القاضي الحكيم إلى المتهم أو المتخاصمين، وكيف يوثق أقوالهم بنزاهة مطلقة في الإدلاء بما يرغبون الإفضاء به بحرية ودون ممارسة أية ضغوط، وعلمت أن الشيخ لا يكتفي بما يسمع من الخصمين حين يتنازعان على حدود مشتركة بينهما ويزحف أحدهما على الآخر في غفلة من عيون الناس؛ فيذهب بنفسه في أوقات يثق بعدم وجود أحد في الموضع المتنازع عليه ويتعرف بعمق على الحدود والأطوال والآثار القديمة والمحدثة، وحين يجلس الخصمان يسألهما أسئلة العارف المتمكن؛ فلا يصدر حكماً إلا بعد تروٍ وطول نظر وتوثق من الأدلة والشهود.
ورأيت كيف يهمش بخط يده على بعض القضايا ويوقع على ذلك معترضاً على قضاة محكمة آخرين نظروا في القضية أو ربما مبدياً رأيه العادل النزيه في حزم لمسؤول أعاد إليه صك القضية؛ لنقض الحكم أو التراجع عنه أو التخفيف منه.
لكن صرامته وهيبته تتلاشى أمام كثير من المواقف الإنسانية التي كان فيها القاضي الإنسان الذي يرجح كفة الصفح والغفران ومنح المخطئ فرصة أخرى، وحين يكون لا بد من عقاب؛ فإنه يكتفي بأيسره على النفس دون إشهار أو إعلام مرجع المتهم بقضيته خوفاً عليه من الفصل وقطع رزقه.
كان الشيخ حاد الذكاء، يقول لي: «إنني ومنذ الوهلة الأولى وبعد كلمات قليلة من المتخاصمين ونظرة فاحصة لملامح وجهيهما أعرف تماماً من هو صاحب الحق؛ ولكنني أتريث إلى أن تتبين لي الأدلة القاطعة» يتبع..