عمر إبراهيم الرشيد
تأتي شهرة أي روائي من براعة نقله مختلف أوجه الحياة وألوانها في مجتمعه، أو في مجتمع آخر قريب أو بعيد جغرافيًّا أو زمنيًّا، نقلاً غير مباشر روائيًّا، وبأسلوب أدبي راقٍ، وبلغة عالية، وقدرة تصويرية أخَّاذة، حينًا بتوظيف أسماء وشخصيات حقيقية في تلك الرواية، وحينًا بأسماء مستعارة وبأسلوب رمزي.. ويصدق هذا على السيرة الذاتية، سواء للروائي نفسه، أو شخصية أخرى. كنت قد تناولت في مقالي السابق أحد أشهر روائيي العالم، وهو الروسي فيودور دوستويفسكي (1821 - 1881م). هذا الروائي الواقعي هو من أخصب الكتَّاب وأغزرهم إنتاجًا، وكان له تأثيره على الأدب الروائي فيما تلاه من زمن إلى يومنا هذا. كاتب هادئ، يخفي داخله بركانًا من الهم الاجتماعي والإنساني والشخصي والعاطفي، أنتج تلك الروايات التي ما زالت تُقرأ، وكأنها كُتبت لعصرنا هذا. كان دوستويفسكي مصابًا بالصرع الذي كان ينتابه من وقت لآخر، وحتى هذا الداء العضال شكَّل معاناة كانت مصدرًا لإبداعه كما يحدث لبعض البشر حين تحولهم المعاناة إلى أيقونات فكر وثقافة وفن ونفع عام.. حتى أنه وصف الصرع بعد أن يفيق من نوبته بأنه حالة بين الحياة والموت، وكأن النفس تخرج من الجسد إلى عالم غير منظور، بل ذكر أن حالة صفاء ذهني حاد تسبق نوبة الصرع بوقت وجيز. ومعروف أن هذا الكاتب نسج روايات من صميم الواقع الروسي بشمولية إنسانية، وذلك بسبر أغوار النفس البشرية بأطماعها وعواطفها، بضعفها وجبروتها، بنوازع الشر ومكامن الخير فيها. ومن أشهر ما كتب في ذلك رواية (المقامر)، التي برع فيها بتصوير حالة من يمارس لعبة القمار من لحظة دخوله صالة القمار ونظرات المنتفعين تلتهمه، وكأنه فريسة منتظرة، مرورًا بحالته ومشاعر الترقب لربح تهفو نفسه إليه، أو لخسارة يرتعب قلبه لوقوعها المحتمل. نفس لا تهدأ، ضعيفة، ينهشها الجشع نهشًا وهي بين لاعبين آخرين ومراقبي ومسجلي عمليات اللعب، وغانيات مهمتهن الإلهاء والإغراء بنثر المال حتى تلتهمه نار الجشع ملتهمة معه كل قيمة إنسانية.. فالمجد في صالة اللعب - كما صورها دوستويفسكي - هو للمال، ولا شيء غيره. والمعروف أن دوستويفسكي نفسه قد دخل هذا العالم فعليًّا، ومارس القمار لفترة من الزمن. ويرى النقاد أن رواية (المقامر) فيها من سيرته الذاتية الكثير، وأن شخصية المقامر المثقف فيها إنما هي تشير إلى دوستويفسكي نفسه حين مارس القمار أشهرًا عدة في ألمانيا. كأن هذا الروائالكبير أراد ولوج هذا العالم حتى يبدع في تصوير حالة المقامر.. إن ربح لم يدعه طمعه البشري ليغادر صالة القمار؛ فنشوة الربح والفوز بالمال تغريه؛ كي يكمل اللعب، ويرمي بعض ماله أو كله؛ ليضاعف ربحه، حسب ما يصور له خياله الجامح بنشوة الكسب الملتهبة. وكذلك إن خسر فشعوره بفقد ماله يدفعه إلى رمي ما بقي معه؛ علَّه يعوض ما خسر، أو يستدين حتى لو اضطره ذلك لرهن أي شيء أو بيع أي مما يملك حين تُعمي هذه اللعبة بصيرته؛ ليكمل اللعب، ويعوض ما خسر. وكما ذكرت سابقًا، فإن عالم التحليل النفسي النمساوي سيجمون فرويد خرج بنظريات نفسية عدة، وتعلم من دوستويفسكي بقراءة رواياته. وقبل أن أختم فلنقرأ كتاب الله تعالى، ونتمعن فيه قوله - عز وجل -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا..} الآية. هذه إشارات وددت أن أشرككم بها. دامت لكم متعة المعرفة وصداقة الكتاب. والله يرعاكم.