د.عبد الرحمن الحبيب
تكاثرت المشاهد القصيرة في وسائل الإعلام الاجتماعي وتكاثر متابعوها بما يفوق كافة وسائل الإعلام الأخرى.. إنها سيطرة الصورة أو «ثقافة المشهد».. فمن يسيطر على إنتاج الصورة سيتحكم بتوجهات المجتمع. لكن المتنافسين كُثر لاقتناص الانتباه..
«تكاثرت الظباءُ على خِراشٍ
فما يدري خراشٌ ما يصيدُ»..
التكاثر اللا محدود لمنصات الإعلام الرقمي وتراجع وسائل الإعلام التقليدية سيغير كل الأنماط الإعلامية المعهودة.. وما كان يسمى العالم الافتراضي سيصبح عما قريب العالم الواقعي! فإذا أخذنا الناقل الأكبر للأخبار وهو مؤسسات الإعلام، نجد أن الإنترنت قلل الحاجة للمراسل المحترف لنقل الخبر أو تصوير الحدث، فكل من يحمل هاتفاً جوالاً أصبح مراسلاً يوزع صور الحدث وتعليقاته قبل وصول المحترف..
سينتهي مفهوم المرسل والمتلقِّي، والمنتج والمستهلك، ويندمجان في مفهوم «المستهلك المنتج» أو «المستخدم»، مما يتطلّب معه إعادة تعريف مفهوم الصحافة والنشر، بل ومفهوم المعرفة بشكل عام. فالمعرفة برمتها صارت بضاعة مشاعة في حراج الإنترنت: بيعٌ بلا وسيط (بائع) وبلا وسط (محل)، بل أصبح مشترياً وسلعة.. وفي نفس الوقت صار المشتري يبيع، والمستهلك ينتج مشاهد ومعلومات.. أصبح الإنترنت السوق الأكبر لبيع المعلومات والمعرفة وممتداً إلى إتمام العمليات الحياتية من تحويل أموال إلى حجز تذكرة سفر أو سيارة أجرة.. ومن إصدارات مؤسسة ثقافية إلى نشر قصيدة شاعر كان منسيا..
لندخل لغة الأرقام كي نحلل الوضع.. ففي السعودية أوضح استطلاع لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني (عام 2017) تفوق الصحف الإلكترونية في الحصول على مشاهدة القراء لمتابعة الأخبار بنسبة 53 % بينما حصلت الصحف الورقية على نسبة 23 %. أما الأفراد الذين لا يقرؤون الصحف فيتابعون الأخبار عبر قنوات التلفزة بنسبة 36 % والإذاعات بنسبة 4 %، مقابل 22 % سناب شات، 20 % تويتر، 12 % للواتساب.. أي أن النسبة للوسائل الثلاث الأخيرة 54 %.
في تقرير ضخم لنادي دبي للصحافة (نظرة على الإعلام العربي 2016-2018) الذي ستتناوله بقية المقال، أوضح أن نسبة ما يقضيه العربي مع كافة وسائل الإعلام لعام 2015 كان: الإعلام الاجتماعي الرقمي 41 %، التلفاز 30 %، الصحف والمجلات 9 %، الكتب 8 %؛ موضحاً أن الصحف الورقية تتناقص وسوق المطبوعات ينخفض بنحو 5 % سنوياً في مبيعات وعائدات إعلانية بينما وسائل الإعلام الرقمية تنمو بمعدل 14 % سنوياً. بالنسبة للسعودية التي تعد السوق الرئيسية للإعلام العربي، بلغت نسب جمهور المشاهدة للتلفزة: 56 % إم بي سي، 14 % روتانا، 6 % للتلفزيون السعودي. وتحظى قنوات المنوعات والأفلام بنسبة 70 % من المشاهدة، بينما القنوات الدينية نسبتها 3 % وتزيد في رمضان إلى 8 %.
إذا أخذنا مقدار الوقت الذي يقضيه المستخدمون في العالم العربي، نجد أن أغلبه في متابعة الإعلام الاجتماعي الرقمي بمعدل 40 دقيقة يومياً لوسائل الإعلام الاجتماعي و28 دقيقة للفيديو. ومن هنا ازدادت قوة المجتمعات عبر المزيد من المكونات الاجتماعية والتوصيات المتبادلة في كافة المجالات مما أدى لاكتشاف الأخبار والمعلومات وتطويرها وتوزيعها ليتحول الاتجاه إلى المشاهدات العاجلة بدلاً من الأخبار العاجلة.. وإلى المشاهدة بدلاً من القراءة.. ومن ثم التحول إلى «ثقافة المشهد».
الآن يقوم الهواة، خاصة الشباب، بإنتاج مقاطع الفيديو القصيرة وتوزيعها على المنصات الرقمية مثل يوتيوب، مستقطبة مشاهدة أعلى من أكبر شبكات التلفزة التي تلهث للحاق بهذه المقاطع عبر دمجها مع برامجها واستقطاب هؤلاء الهواة، مما زاد المتابعة لإنتاجهم وتطوير مواهبهم. كما بدأت بعض القنوات الكبرى بتطوير خططها لإنتاج المزيد من المحتوى المحلي الجديد..
كل ذلك أدى لتأسيس ثقافة محلية جديدة أبعد من مجرد التسويق الإعلامي إلى مستويات ومنافع متعددة تقود طفرة ثقافية غير مسبوقة، وتغير في طبائع الجمهور المستهلك للمادة الإعلامية، وتغير في طبيعة الوظائف التي صارت تتطلب مهارة في التعامل مع التكنولوجيا الرقمية، مما يخلق تحديا لمناهج التعليم والتدريب لتلبية احتياجات السوق. هذا التحول الرقمي السريع جعل المتلقي ليس فقط يستقبل المادة الإعلامية بل أيضاً منتجاً لها بما يعرف بالمستهلك المنتج (prosumer) عبر وسائل الإعلام الاجتماعية المتاحة للجميع، وأهمها الآن الهاتف النقال، فأي فرد يمكنه إنتاج مادة إعلامية قد تصل به الشهرة لمصاف نجوم الإعلام التقليدي.
من الناحية الاقتصادية، حجم سوق الإعلان في العالم العربي بالمليار دولار: 3.4 للسعودية، 2.1 للإمارات، 1.7 لمصر، 0.7 للكويت. السوق الإعلامي السعودي حالياً يتوزع: 37 % للمطبوعات، 31 % للتلفاز، 22 % للإعلام الرقمي. لكن قفزة حصة المشاهدات في الهاتف النقال من 11 % عام 2011 إلى 70 % عام 2015 ستؤدي إلى توجه السوق الإعلاني نحو ما يوضع في الهاتف النقال..
تناقص مبيعات الإعلام الورقي مقابل تزايد القراء للوسائل الرقمية خاصة الأجهزة النقالة أدى لانخفاض القيمة الإعلانية التي تحملها النسخ المطبوعة مع ارتفاع حدة المنافسة لاقتناصها. لذلك فإن التحدي الأكبر أمام وسائل الإعلام هو تحقيق الدخل من الجمهور عبر الأجهزة النقالة لاسيما الهواتف الذكية. وهنا، على الناشرين تكييف المحتوى الذي ينتجونه وتأسيس علاقات ونماذج توزيع جديدة تتيح لهم الاستمرار في هذا القطاع، فالعالم كله يتحول إلى الرقمنة.