مما لا شك فيه أن مستوى النظر للأمور يختلف باختلاف الأشخاص، ولذلك نُسِبَتْ لـ«ألينور روزفلت» مقولة رائعة هي: «العقول الصغيرة تناقش الأشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الأحداث، والعقول الكبيرة تناقش الأفكار».
وفي الحقيقة استدعيتُ هذه المقولة بسبب موقف حصل قبل أيام ماضية، والرصد النقدي لهذا الموقف لم يخرج عن إطار المقولة السابقة.
الموقف باختصار هو أن أحد الدعاة أثار مواقع شبكات التواصل الاجتماعية بسبب مقطع انتشر له انتشار النار في الهشيم، يسرد الداعية فيه قصة عن اللقالق، وأن زوج هذا الطير قتل زوجته لأنه اكتشف اختلافاً كبيراً في ذريته، فالبيض بعد فقسه خرجت منه كائنات لا تمت بصلة للزوجين، ولهذا قام بقتل زوجته، بمساعدة الطيور الأخرى.
هذه هي القصة كما رواها الداعية، ولنرى كيف تم التعامل معها.
أصحاب العقول الصغيرة
يمكن القول إن أصحاب العقول الصغيرة تعاملوا مع هذه القصة بشكل سطحي، فهي لم تخرج من إطار «الشخصنة»، فكلا الفريقين «المنافحين والمعارضين» انطلق نقده وانتهى ولم يتجاوز شخصية الداعية، فمثلاً يقول المنافحون ما يلي:
- «هذا شيخ وعالم، ما يجوز تتكلم عنه».
- «إذا كان عندك ربع اللي عنده فتكلم».
- «من أنت حتى تتكلم، وتكذِّب الشيخ».
ومن جهة أخرى يقول المعارضون:
- «لا يوجد أحد فوق النقد»، ويستشهدون بمقولة الإمام مالك: «كلكم يؤخذ منه ويُرد إلا صاحب هذا القبر».
- «هل كل ما يقوله الداعية مقدس، ولا يمكننا تعريضه للنقد؟!»..
ولو لاحظنا كلا الفريقين لعرفنا أنهما لم يتجاوزا مسألة «الأشخاص»، ولهذا يطلق عليهم أصحاب العقول الصغيرة.
أصحاب العقول المتوسطة
هؤلاء تجاوزوا «الشخصنة» وتكلموا عن القصة ذاتها، وكانت مقولاتهم كالآتي:
الفريق المنافح
- «الشيخ ناقل للقصة، وراو لها».
- «لا يوجد ما يدعو لتكذيب القصة...»
الفريق المعارض
- «هذه القصة ليست منطقية».
- «القصة مأخوذة من رواية الطائر المصبوغ لكوشينسكي».
- «لا يوجد إثباتات ولا مراجع لما ذكره الداعية، حتى أن العالم الفرنسي الذي صوَّر ورصد حالة اللقالق لم يذكر له اسماً، ولا في أي عصر عاش، ويبدو أن هذه القصة من الأساطير الشعبية (سبحونة)».
وكما يلاحظ، فالنقد جميعه تناول الحدث «القصة»، ولهذا يسمون هؤلاء بأصحاب العقول المتوسطة.
أصحاب العقول العظيمة
حقيقة هؤلاء كانوا قلة، والملاحظ عليهم أن نقدهم ركَّز على الفكرة ذاتها، فالغرض الذي من أجله ساق الداعية القصة هو التحذير من الخيانة الزوجية، فالطيور لم ترض بهذه الخيانة، فما بالك في البشر، وهذا الموقف جعل العالم الفرنسي يعتنق الإسلام.
لا أظن أن سلوكيات الطيور أو الحيوانات بشكل عام يمكن اتخاذها كدليل على قضية من القضايا، فمثلاً لو سلَّمنا بصحة القصة التي سردها لنا الداعية، فسيأتي آخرون ويستخدمون الأسلوب نفسه لقضايا تدعم مبادئهم ومعتقداتهم، فهناك حيوانات تقتات على الحيوانات الأخرى، وهم آكلة اللحوم، فهل يمكننا إسقاط سلوكهم على القبائل آكلة لحوم البشر! ونرى أن أكل لحوم البشر أمر مقبول، ومعقول، والدليل الذي سوغ لنا هذا الحكم هو تصرف الحيوانات آكلة اللحوم.
وقس على ذلك سلوكيات كثيرة.
لا شك أن الدين الإسلامي أكمل الأديان على الإطلاق، وأن أحكامه أحكم، وأدق، وأعدل الأحكام، ولا نحتاج أن نسوق مثل هذه القصص الغريبة، لتوضيح مدى عظمة هذا الدين، فهو دين الله العظيم، وخاتم الأديان.
يجب أن نرتقي بتفكيرنا ونظرتنا للأمور، ولا ننظر بشكل سطحي، بل علينا التفكير بعمق، لكي نصل إلى مستوى عالٍ جداً من الثقافة، والنقد، ولنعلم أننا لسنا الوحيدين في هذا العالم، ولا نجعل الآخرين ينتقصون من عقولنا وتفكيرنا بسرد مثل هذه القصص الغريبة العصية على العقل أن يقتنع بها، وأيضاً لكونها لا تمثل شيئاً لنا، ولا تخدم ديننا، فمثل ما قلت آنفاً، إن هذا السلوك قد أسقطه على شيء يخدم ديني، ولكن الآخرين قد يسقطون سلوكيات أخرى مخالفة لديننا الإسلامي، لتخدم معتقداتهم وأيماناتهم، ولا يحق لنا الاعتراض عليهم، لأنهم استخدموا الأسلوب ذاته الذي استخدمناه.
مما لا شك فيه أن هذه العقول الثلاثة «الصغيرة، والمتوسطة، والكبيرة» موجودة، ويمكن رصدها في مواقف كثيرة في مجتمعنا، ولكنني ارتأيت هذا المثال، لحجم النقاشات التي دارت حوله، ويبقى السؤال الأهم:
من أي العقول نحن؟.