سعيد الدحية الزهراني
يبدو أن حمى الاختزال التي أفرزتها بيئة الاتصال الإلكتروني الجديدة لم تقتصر على حدود المحتوى الإعلامي والاتصالي.. بل تعدت ذلك إلى أطر المنتج الإبداعي.. وهذا ليس بالجديد ولا الغريب أيضاً.. الأجد والأغرب هو أن نصل إلى شكلٍ شعري يحاكي في صِغره واختزاله وتركيزه وإبهاره تقنية النانو المتناهية الصغر.. على مختلف صعد الإفادة والاستخدام لهذا الاكتشاف المذهل.. حتى بتنا اليوم أمام مصطلح قصيدة النانو.
الحالة التي أود أن استلهمها من قصيدة النانو لا تعنى بتفاصيلها الشعرية والأدبية أو النقدية.. فلهذا المجال رموزه التي تقرأه وتحكامه.. الذي يعنيني هنا هو هذه الموجة العالية من الانسحابات جراء الاستسلام العام لهذه الموجه التي أحالت المنجزات والمشروعات والأفكار الكبرى إلى أيقونات واختزالات متناهية الصغر على الأقل في محاولة محاكاة التسمية.. وإن مضينا في الاستسلام لها سننتهي إلى حالات قزمية متناهية الصغر في المضامين والمعاني.. على العكس من تقنية النانو التي تبشر بفتوحات علمية تفيد بنو البشر وتخدم واقعهم ومستقبلهم.
القصة لا تقف عند قصيدة النانو فقد سبقتها أشكال أدبيه أخرى تماهت مع ما فرضته الموجه الاتصالية الجديدة وذاعت وانتشرت (كحريق القش) الذي يبهر فور اشتعاله لكنه ينطفئ سريعاً. وفي حقل السرد من الأدلة ما يشكل كومة قش مماثلة.
المؤسف في هذا التوصيف أن المشروعات الجادة تُقابل بالهجران والنسيان وعدم الاهتمام.. وهذا ما يؤدي إلى تراجع قيمة المعرفة عامةً بوصفها اشتغال جاد ومنظم ينتهي بنا إلى أبنية واضحة المعالم يراها الحاضر وتحدد مسارات المستقبل وتحفظ ذاكرته.
أخشى ما أخشاه إن استمرأنا مسايرة هذه الحالة الاختزالية نحو مزيد من التناهي في الصغر.. ألا نرى أنفسنا ولا يرانا أحد.. ومهمة انتشالنا من هذه الحالة الصفرية وسط هذه الموجة المتزايدة في المد.. مهمة ليست باليسيرة.. لكن الاستسلام لها مسألة التاريخ لن يرحم أهلها.. ولن يعفو عن الساكتين عنها.. علينا أن نكبر لأننا سئمنا من تحدي الصغر.