د. إبراهيم بن محمد الشتوي
هذه القضية «الأصالة» التي تحدثت عنها في المقالة السابقة، لم تأت سوى مرة أو مرتين: مرة على لسان والد وريقة لمران، عندما طلب منه أرضا، قال: «جئت غريبا تطلب عملاً، فأعطيناك، وأكرمناك، وزوجناك. الآن تريد أن تملك أرضاً»، وكان مران يبحث في سبب الرفض، إذ يقول: «لا بد أنهم تساءلوا عن أصلي وفصلي».
هنا ظهرت قيمة الأصل بوصفه المانع من تملك الأرض، وهي نفسها الجملة التي يستعملها فيما بعد «مران» حين يستضيف «صايل» فيسمح له بالسكنى والأكل والشرب دون أن يتملك أرضا.
لكن المتأمل، لهؤلاء القوم الذين عرضت أحوالهم في المقالة السابقة، يجد أنهم يشتركون بالغربة، فكلهم قد رحل في وقت من الأوقات، فالارتحال والتحول، في هذه الحكايات جميعاً يأتي بوصفه الحل المتاح الذي تصير إليه الشخصيات، الارتحال بحثاً عن الكلأ والعشب، أو الارتحال بحثاً عن الأمن والعيش الكريم، فقبيلة عبد الحي كانت تنتقل بحثا عن الماء والكلأ، وحين مات أبوه ارتحل إلى الأدهم، ومران ارتحل ثلاث مرات، وعامر وعمرو ميثاء كذلك، ومنهاد أيضاً.
هذا الموتيف يتجاوز كونه وسيلة لبناء الأدهم إلى كونه جزءا من ذاكرة الإنسان في المكان/ الأدهم، فهو من جهة لا ذاكرة له مع المكان يشعر أنه يرتبط به ارتباطاً وثيقاً، ومن جهة أخرى يشعر بأن المكان كله ملكه ولا يحده حد، فالفروقات بينها ضئيلة، تتساوى في صلتها بوجدانه ما دام أنها تؤمن احتياجاته المعيشية.
هنا يبدو الإنسان قاهرا للمكان، ومتعاليا عليه، رافضا كل علائق معه تحيله إلى قيد أمام عيشه، وحاجته، فهو لا يبالي أن يغادره حين يرى أنه لم يعد وافيا بمتطلباته، والدفاع لا يمكن أن يكون عنه، أو أن الموت لا يكون في سبيله.
في حين يأتي الأدهم، وهو يأويهم جميعا، وهو الذي يجتمعون بسببه، وفي هذا الوقت يؤسس علاقة جديدة بين الإنسان والمكان، يصبح المكان له قيمة خاصة، وتملكه يعطي معنى آخر، فهو يعني التمكن فيه، وأنه جزء منه. هذا المعنى نجده في حديث الرجل الذي نزل عليه مران حين اشترط عليه ألا يتملك شيئا منه، وفي حديث مران نفسه لصايل حين نزل عليه، ثم في موقف منهاد وهي تدافع عن مكانها من جبل الأدهم حين شهرت خنجرها تقاتل دونه.
تحول الأدهم إلى وطن للساكن فيه، يأخذ كل معاني الوطن، وحول الإنسان فيه إلى مستقر، يترابط فيما بينه بالروابط الإنسانية، كالتي بين صايل، ومران، وبين منهاد، ووريقة، وبين محسن، وأهل الحي.
هذا التشابه في مكونات الشخصية الروائية ألآنف الذكر، يقترب أيضا من التشابه في أحداثها، فحكاية مران، تشبه حكاية أجا بن عبد الحي، وحكاية أجا وسلمى تشبه حكاية منهاد وصايل، فالحكاية الأولى تقوم على السلب ثم الارتحال والبحث عن ملجأ آخر غير المكان الأول، والثانية تقوم على الحب، والمقاومة ثم الارتحال في سبيله.
لا ترابط بين هذه الحكايات على مستوى الحدث، كل واحدة منها هي حكاية قائمة بذاتها، لها بداية ونهاية، ولا صلة لها بخاتمة الرواية، أو بتنامي الحدث الكلي، وكأن الرواية مجموعة من الحكايات المتداخلة، يتم الترابط بينها عن طريق الصلات بين الشخصيات، فحكاية أجا قبل أن ينزل في الأدهم مثلا وردت حين قصها على منهاد، وحكاية وريقة قصتها على مران - كما يبدو- ولا يبدو لحكاية «أجا» تأثير على مجريات الرواية، ولا على صلته بـ«منهاد» إلا من خلال كسب تعاطفها، وإلا فإن سير الأحداث، فيما بعد، أخذ منحى آخر.
وهو تشابه يعني أن ذاكرة المكان واحدة، وإن اختلفت مسمياتها، وأنها تتكرر مع كل فرد من أفراد ساكنيه، الأمر الذي يمنح المكان حالة واحدة من الإحساس، ويشيع بين أفراده نوعاً من التفاهم، والتعاطف أيضاً، وهذا ما نحيل إليه موقف «منهاد» من «أجا»، و»سلمى» وحكايتهما، فحكايتها من جهة تتناظر مع حكاية أجا بن عبد الحي، فقد كان ابن عقيد قومه، يمتلك قطيعاً كبيراً من النعم، والغنم، يغزون الأقوام الآخرين ويسلبون ما معهم، ويوقعون فيهم قتلا وسبيا، إلى أن وقعوا هم في مغبة أفعالهم، فحلت عليهم الدوائر، ونزل بساحتهم قوم قتلوا أفرداهم، وساقوا أنعامهم، مات على أثرها أبوه «عبد الحي»، الأمر الذي دفع بأجا إلى الترحّل إلى الأدهم مع والدته فاراً بحياته. وكذلك منهاد، فأبوها كان زعيم قومه، وكان له نعم وغنم، وقد تركت هذا كله وفرت إلى الأدهم حين أراد القوم قتلها لأنها نكحت الراعي. فهي غريبة وهو غريب، وكل غريب للغريب نسيب على حد قول الشاعر القديم.
ومن جهة أخرى تتناظر مع حكاية «سلمى» حيث أحبت «صايل»، وتزوجته رغما عن القبيلة، وتركت كل شيء لأجل هذا الحب، وهو ما يجعلها تنظر إلى «أجا» بوصفه صورة أخرى عن صايل، ويعزز مشاعر التعاطف، ويبرر الموقف الذي سلكته.
هذه الحالة التي جاءت عليها الأحداث، والتيمات في النص، هي سمة من سمات الحكايات الشعبية، حيث الحكاية تتكون من وحدات حكائية أصغر منها لا تترابط في الغالب بسبب، وحيث المكان ظرف للفعل، لا ينتقل تأثيره إلى الحدث أو إلى عيره من الأمكنة.