قاسم حول
«عبد الحق طرشوني» مخرج سينمائي متخصص بإنتاج الأفلام الوثائقية، وسبق وأن حقق عدة أفلام وثائقية ومنها الفيلم الوثائقي عن الأمازيغ، عاداتهم، تقاليدهم وحياتهم ضمن الكيان التونسي. والذي أثار انتباه المشاهدين والنقاد على حد سواء.
أنجز «طرشوني» فيلما وثائقيا جديداً عن المياه بعنوان «الماء لك ولأبنائك» وهو بشفافيته يتجاوز الفيلم الذي يوحي عنوانه بالطبيعة المعلوماتية. الفيلم تعدى هذه المهمة وتميز بالشاعرية السينمائية.
أفلام المياه في العالم لها مهرجاناتها السينمائية، لأهمية هذا الموضوع الحيوي حتى أن هناك مقولة تعتقد بأن الحروب القادمة في العالم ستكون حروب المياه وليست حروب النفط.
ثمة اتفاقيات دولية تتعلق بالأنهار وهناك سدود وخزانات مياه عملاقة تتكدس فيها المياه وقد تنقذ المياه بعض الاختناقات الاقتصادية، وقد تستخدم المياه كسلاح مادي وليس كسلاح يتعلق بالعطش، ففتح خزانات عملاقة قد تغرق جيران هذا البلد أو ذاك وإتلاف الزرع في هذا البلد أو ذاك. لذلك فإن الأفلام الوثائقية بصيغتها الموضوعية تنطوي على أهمية إنسانية وطبيعة الماء ومصادرها من الشلالات والأمطار والمياه الجوفية، تعطي الأفلام جمالية سينمائية. وكذلك الأنهار وتفرعاتها وسريانها وسط المساحات الزراعية لها جمالية خاصة في التصوير. وكذلك البحار والمغامرات في عوالمها وأعماقها شكلت حكايات وقصص أنتجت عنها الأفلام العملاقة. لذلك تخصصت بعض المهرجانات بعالم المياه.
هناك بلدان لم تتعافَ بالأنهار فتعمد إلى استثمار مياه الأمطار في البحيرات الصناعية التي بناها القدماء في المدن العطشى، ومدينة القيروان في تونس نموذج لهذه المدن. فتونس لها تاريخ في كيفية استثمار المياه ومواردها وبشكل خاص الموارد المائية من الأمطار. وقد عرفت تونس منذ العصور القديمة في بناء المنشآت المائية والخزنات والسدود وهذا دليل اهتمام الدولة التونسية بموضوع المياه عبر وزارة الزراعة والسدود التي ينبغي أن تذهب بعيداً في مجال الثقافة المائية عبر السينما. وتطلق أفلاماً هامة تشارك فيها ومن خلالها في مهرجانات السينما، وسيعود ذلك ليس للسينما التونسية فحسب بل سينعكس ذلك على ثقافة المياه.
نتوقف أمام تجربة المخرج التونسي «عبد الحق طرشوني» السينمائية الوثائقية بإعجاب لمبادرته في تصوير عالم المياه في تونس، ولكنه كان ينبغي أن يتوسع في هذا الموضوع أكثر ليخرج من موضوع المياه في تونس إلى أزمة المياه في العالم ويعمد لتصوير هذا العالم المائي الذي يشكل ثلثي الكرة الأرضية بما يحتويه من عوالم مدهشة، وأخال بأن الإمكانات المالية حالت دون التوغل بالإمكانيات المائية في العالم. فثمة منظمات دولية تابعة للأمم المتحدة تعنى بشؤون البيئة يمكن التعاون معها، ومؤسساتها منتشرة في جميع أنحاء العالم ولها مواقع في تونس. وهي مؤهلة ومخولة لدعم التحرك السينمائي لبحث قضية المياه.
إن المياه في العالم هي العصب الحساس لاستخراج النفط، فبدون مياه يتعذر استخراج النفط إضافة إلى أنها عصب الحياة حيث تروي ظمأ الإنسان وتروي ظمأ الأرض. فتصوير المياه هو على المستوى الحياتي تكمن فيه الضرورة وعلى المستوى الجمالي السينمائي تكمن فيه الموضوعية لقيم الجمال.
لا أستطيع التكهن، بأية إمكانيات مالية وتقنية نفذ المخرج «طرشوني» فيلمه التونسي عن المياه، مع أنه تميز بالشاعرية السينمائية. لكنني تصورت ماذا كان يمكن أن يحقق لسينما المياه إن صح التعبير لو توفرت له الإمكانات الأكبر، للسفر خارج تونس حيث المياه وعوالمها الأخاذة، والمؤثرات البصرية التي توفرها التقنيات السينمائية الحديثة. أظن لو تحقق له ذلك لخرج بفيلم طويل ومثير للمشاهدة ويستحق المشاركة في المهرجانات السينمائية العالمية المتخصصة بالمياه وعوالمها في الطبيعة وفي العالم.
فعلى سبيل المثال، شعرت بأن موسيقى الفيلم قد أخذت من الموسيقى المنتشرة على شبكات الإنترنت، وهذا يؤثر على نظامية العمل السينمائي ويحول دون مشاركته في المهرجانات السينمائية وحتى دون موافقة عرضه من التلفزة العالمية، فيما موضوع جميل كموضوع المياه وكطبيعة سينمائية تستوجب موسيقى مؤلفة خصيصا للفيلم بعد دراسة بصرية وسمعية للمواقع مؤثراتها الصوتية. ولا أظن أن التعليق على الفيلم الوثائقي بشكل عام هو حل معلوماتي وجمالي على الأفلام الوثائقية، فقد يكون مفيدا عندما تقتضي الضرورة، وقد لا تقتضي تلك الضرورة، فهناك وسائل معلوماتية مختلفة غير التعليق تستخدمها لغة التعبير السينمائية وصولا إلى الهدف والفكرة الأساسية. وكل ذلك يتعلق بالاسترخاء الذهني والتأمل وإعطاء الزمن مساحته عند البحث وكتابة السيناريو. هذه الملاحظات لا تقلل من أهمية الفيلم وشاعريته.
إن صوت جريان الماء، وصوت تدفق الشلالات وصوت هطول الأمطار وصوت تكسر الثلوج في المحيطات المتجمدة وصوت الرياح والعواصف المطرة هي كلها موسيقى الحياة التي قد تعوض عن الموسيقى المقتبسة أو حتى المؤلفة خصيصا للفيلم .. ولكن كل ذلك يتطلب وضع إمكانات مادية أمام المخرج وكل ذلك يقتضي التعاون مع المنظمات الدولية وصولا إلى فيلم أطول مدى وأكثر شاعرية وتأثيرا للمشاهدة ويدخل تونس بقوة وثقة في مهرجانات السينما الدولية المتخصصة بالمياه. وسبق وأن كتبنا عن ضرورة مبادرة المملكة العربية السعودية لإقامة مثل هذه المهرجانات المتخصصة بالمياه، فهناك أفلام روائية عملاقة بحثت في قضية المياه مثل فيلم «تيتانك» و«الشيخ والبحر» و«موبي ديك» و«إبن النيل» و«النيل أرزاق» وفيلم «إمرأة الماء» وفيلم «حروب المياه» وفيلم «فتاة النهر» وفيلم «الأهوار»، أفلام لا يمكن حصر عددها من الأفلام الوثائقية والروائية. لقد قيل أن من يسيطر على المياه يسيطر على العالم. وهذه المقولة يمكن أن ننطلق منها لبحث حتى قضية الحرب والسلام في العالم.
موضوع المياه هو موضوع حيوي وهام جدا، وهو موضوع مثير للسينما وللتصوير. وتجربة المخرج الوثائقي التونسي «عبد الحق طرشوني» تنبغي دراستها وينبغي دعمها حتى يخرج من المحلية التونسية إلى العالمية التي تضع تونس مائيا وسينمائيا في المكانة السينمائية وفي موقع رعاية الطبيعة، وأتمنى لمخرج فيلم «الماء إليك ولأولادك» أن يعيد تجربة فيلم ثان عن المياه بإمكانات ينبغي أن توفرها له الجهات الداعمة للسينما والداعمة لموضوع المياه في تونس والعالم. فالفيلم الوثائقي لا يقل أهمية عن الفيلم الروائي، بل ثمة إتجاه يؤمن به حتى كبار مخرجي السينما، وفي المقدمة منهم «ديزيغا فيرتوف» بأن الفيلم السينمائي الوثائقي هو السينما. وأفلام الماء وثائقيا هي أجمل الأفلام في تاريخ السينما.