الثقافة - محمد هليل الرويلي:
واسيني عبر الأيام.. واسيني كي لا أعرج حين أمشي عبر مسالك العمر أفتش في وجه الزمان.. سأقفز فوق التاريخ العربي وما خلفه «رماد الشرق» في الأندلس ضاع «البيت الأندلسي».. يا للعنة، «سأحكيلك حكاية العربي الأخير 2084»، وما آل إليه حال العرب داخل دوامة التحلل والتفكك التي قذفت بهم خارج التاريخ بعد أن كانوا ينعمون بـ «مملكة الفراشة». هل تذكرين يا «لوليتا» كيف رمى لك عاشقك المتيم «طوق الياسمين» يا «حارسة الظلام» و»مرايا الضرير»؛ جُرّاؤك «سيرة المنتهى «عشتها كما اشتهتني». مهبولك واسيني نعم مهبولك وقف أمامك يا «سيدة المقام» في «الليلة السابعة بعد الألف» بعد أن قدمت لك «نوار اللوز»، لكن «مصرع أحلام مريم الوديعة» أعاد بـ«ذاكرة الماء» و«ضمير الغائب» لـ«شرفات بحر الشمال»؛ «ما تبقى من سيرة لخضر حمروش»، صابتني الحيرة والمس والجن بعد أن مرضت بين «نساء كازنوفا»، يراودني الخوف والرعشة من «سوناتا لاشباح القدس» و«جملكية أرابيا»، أصبت بالهذيان بعد أن كتبت «كتاب الأمير» ورموني في «مضيق المعطوبين».. مسجى تركوني أمام عتبات «البوابة الحمراء».
هنا بعض من أنتجه ضيف (الثقافية الاستثنائي) الدكتور واسيني الأعرج، هذا المفكر والروائي العربي الذي طوح برواياته الفرانكفونية العوالم المدارية الإنسانية. ولأنه يعلو على المهم والأهم من بين الروائيين العرب أفردنا له مساحات رحيبة مفسوحة من خارطة الصحافة السعودية مكونة من خمسة أجزاء.. دونكم ما قاله في أول أجزاء الحوار:
* عاش واسيني الأعرج طفولة لا حدود لها فكان جذل وترح يومه يتوشجان على تراب مشاع بين هنا وهناك؛ فرهل في صدره هذا المد الجغرافي، وآمن كمغاربي بالانتماء إلى الإقليم دون الخضوع لجغرافية بضتها تضاريس «السايكس بيكويه».. كيف استطاع الواسيني طرح العملة المزجوية ومعالجة الواقع الممتد بعين ثالثة تقرأ المشهد دون النزوع والانحياز لأي منها؟
_ أنا من جيل كبر في ظروف شديدة القسوة. هذه الظروف متعلقة بالفترة الاستعمارية. وُلدت عام 1954، وهو العام الذي اندلعت فيه ثورة التحرير. بقيت في قريتي عشر سنوات؛ وهو ما أعطاني هذا الإحساس بالانتماء للتربة والانتماء للناس ولهمومهم ومشاغلهم ومشاكلهم. شعرت بأني فعلاً جزء من هذا المجتمع، وقريب من صوت الناس؛ لهذا كنت شديد الإصغاء خلال السنوات العشر هذه، وهي عشر سنوات تكوين أوّلي، جزء منها درسته في الفترة الاستعمارية في المدرسة الفرنسية الوحيدة التي كنا ندرس فيها ونتعلم اللغة الفرنسية.
جدتي أدخلتني مدرسة قرآنية لتورثني صوت الأجداد الأندلسيين
دراسة اللغة العربية ممنوعة تمامًا. كانت موجودة في المساجد فقط. وبسبب الجدة ذات الأصول الأندلسية، التي سجلتني في إحدى المدارس القرآنية الموجودة في القرية، رغم بعدها عنا، لكنها كانت مصرة على أن أتعلم القراءة؛ لأنها أصرت على أن أكون وريثًا لصوت الأجداد الأندلسيين.. هكذا كانت تتصور جدتي, وفعلاً أصبحت أدرس اللغة العربية من الخامسة صباحاً حتى السابعة والنصف، ثم أعود إلى المدرسة الفرنسية وأدرس، أبدأ من الساعة الثامنة طوال اليوم, وهذا أعطاني إحساسًا خاصًّا، هو عدم الحقد على اللغة؛ لأن أي لغة كيفما كانت هي بريئة، ولكن محمول هذه اللغة هو الذي يمكن أن تثار حوله الأسئلة, ثم كبرت في مكان استُشهد فيه الوالد في عام 1959، وهذا ما أصّل فيّ الحس بالفقدان. والدتي سعيدة لأنها كانت وفية لوصية الوالد بعدما زارته في السجن في ليلته الأخيرة.
لأنني من عائلة فقيرة وابن شهيد قبلت في السكن في المدرسة الثانوية
عندما تفقد والدك فأنت تفقد حائطاً كنت تتكئ عليه، ويمكن أيضًا أن تتكئ عليه مستقبلاً, لكنه أدى واجبه الوطني، واستُشهد فأعطاني ميراثاً آخر، هو ضرورة الارتباط بهذه الأرض، وهذا أسس عندي قيمة كبيرة وقيمة مضافة. إذًا، السنوات العشر التي عشتها في القرية هي ملاحظات أولية من الترسّخ في المجتمع. كنت أرى الوالدة وهي تتصدى للمتاعب والأعباء بعد استشهاد الوالد وحيدة، وكل ذلك لكي تعيل عائلة مكونة من ثلاثة ذكور وثلاث إناث، وكان عليها أن تجهد نفسها، وقد أجهدت نفسها بشكل كبير، لكنها كانت تشعر بلذة وسعادة ممزوجة بالتطلع واستشراف المستقبل؛ لأنها كانت تؤدي وصية والدي، كما قلت سابقا، الذي قال لها: ادفعي بالأولاد للدراسة ولا تحرميهم منها حتى لو كان ذلك باللغة الفرنسية. وقد فعلت ذلك لكنها في الوقت نفسه تعبت كثيرًا. وبعد أن أنهيت السنوات العشر ونجحت في الإعدادية انتقلت من القرية، قرية سيدي بوجنان مسقط رأسي، إلى مركز الولاية، مدينة تلمسان المدينة الأندلسية العريقة. في هذه المنطقة بدأت أدرس, أمضيت سبع سنوات في النظام الداخلي، وكان لي الحق في البقاء في النظام الداخلي؛ لأنني ابن شهيد، ومن عائلة فقيرة، وأبناء الفقراء كان لهم هذا الحق في الاستفادة من النظام الداخلي في الثانوية, وبقيت سبع سنوات من الإعدادية حتى القسم النهائي «قسم البكالوريا». نجحت في امتحان البكالوريا ثم انتقلت بعدها إلى مدينة وهران، وسجلت في الأدب العربي «ليسانس»، ومن هناك استمرت العملية بشكل متواتر في الدراسة. هذه الحقبة من السنوات الأولى حتى عمر تسع عشرة سنة هي السنوات الأساسية التي أسستني كما يجب، وأعطتني الثقافة البنيوية التحتية التي تؤثر فيّ إلى اليوم بشكل كبير. هذا سقف تكويني في هذه المرحلة بعد أن تلقيت ثقافتي الأولى الاجتماعية والإنسانية وحتى السياسية في تلك الفترة المتقدمة قليلاً.
* ثورنة الأبجدية تعرم حواسك وتحيلها قنابل اشتطارية لاهمة كلما عرض سيلها المجترف يابسها ومخضرها رغبة وتمادي وجواز سفر وذاكرة موبوءة بالاكتهال.. في ظل هذه الحمم البركانية اللمظوية أين تقف لغة البر والعقوق بين الجماعة الفرانكفونية وحضن الأم العربية بأثدائها الثماني والعشرين؟ كيف عبر الواسيني هذه الحقول اللاغمة؟ وهل اشتاكت دربه تلكم التوافقية؟
_ سأبدأ من آخر ما انتهى به هذا السؤال. الخيارات الأساسية التي تحدثت عنها في إجابة السؤال الأول هي خيارات لغوية، وهي خيارات مهمة جداً في ثقافة الكاتب، وليست خيارات سهلة؛ فهي التي تدفع بنا إلى التوجُّه نحو لغة معينة دون غيرها. أنا كبرت في مجتمع عربي، وأيضاً «أمازيغي»، وكبرت في مجتمع لغوي «فرانكفوني». هذا إذًا يعني أنني كنت داخل ثلاث لغات، وربما حتى أربع، اللغة العربية والفرنسية واللغة الأمازيغية التي هي اللغة الأصلية في المنطقة للآباء والأجداد، وأيضاً اللغة الإسبانية؛ لأنني من منطقة تعتبر منطقة أندلسية التي تنفتح على البحر المتوسط وتواجه إسبانيا. وأجدادي الأوائل عندما غادروا غرناطة وجاؤوا من هناك. جاؤوا من تلك المدن، ونزلوا في العدوة الأخرى المقابلة لمنطقتنا. إذًا، اللغة الإسبانية لغة مستمرة. أنا أتذكر أن المرحومة الجدة كان جزء من كلامها مشفوعًا باللغة الإسبانية, وأنا أخذت منها هذا الحب فتعلمتها؛ لكي أتمكن من قراءة الأجداد وما أنجزوه - صار باللغة العربية - ولكن أيضاً باللغة الإسبانية القديمة. هذا شيء مهم، ولكن أيضاً هناك خيارات مركزية مهمة.. أنا، اللغة العربية ذهبت نحوها ولم أتلقَها. أنت تعرف أن الناس الطبيعيين يتلقون اللغة من الأهل, أما أنا فاللغة التي تلقيتها باستثناء اللغة العامية فكانت اللغة العالمة، أي اللغة الفرنسية، وهي أول ما كتبت بها.
أنا فرانكفوني لكن تظل اللغة العربية لغة الأحاسيس ولغة العمق ولغة الداخل
بعد ذلك انتقلت إلى اللغة العربية؛ وهذا ما جعلني أتعب من أجل اللغة العربية؛ لهذا حبي لها كبير ومرتبط بها بقوة حتى أصبحت تشكِّل جزءًا من كياني. أنا أقرأ بلغات كثيرة لكن تظل اللغة العربية لغة الأحاسيس ولغة العمق ولغة الداخل؛ لأن هذه اللغة تكونت في ظرفية غير عادية وغير طبيعية هي ظرفية شديدة القسوة، إنها الظرفية الاستعمارية. هذه الأمور مجتمعة - حتى ولو أردنا أن نخلق حالة من السلام مع النفس ويمكننا طبعًا أن نخلق هذه الحالة من السلام - فإن العلاقة اللغوية والمأساوية أيضاً التي عاشتها الجزائر في ذلك الزمن من الخمسينيات تظل قائمة وتظل حية، وربما لا يمكن أن يخلو نص من النصوص التي نكتبها من هذه الحالة الوجدانية. إذًا، اللغة الفرنسية وما أسميته بـ «الفرانكفونية» أنا صراحة لا تزعجني, علاقتي بها طبيعية جداً؛ لكوني أُدرّس بهذه اللغة في جامعة السوربون، وسعيد بها، وسعيد بأني أمتلك هذه اللغة؛ لأن امتلاك هذه اللغة أيضًا يجعلني أنفتح ليس فقط على الثقافة الفرنسية وحدها أو الفرانكفونية ولكن على الثقافة العالمية؛ لأنه بهذه اللغة يترجم الأدب الياباني، ويترجم الأدب الصيني في وقته، ويترجم الأدب الأسكندنافي وأدب أمريكا اللاتينية في وقت مناسب تماماً. ولكوني لا أمتلك هذه اللغات ولا حتى اللغة التركية، ولا اللغات التي لا أعرفها، لكن بواسطة اللغة الفرنسية وبواسطة الترجمة التي توفرها هذه اللغة أستطيع أن أقرأ المنجز البشري والمنجز الإنساني. والسؤال الأهم: ماذا يمكن أن نفعل بهذه اللغة؟
* ندبات الاغتراب ووجاعه تنز في قلب الإنسان واسيني فنجد لحائنها الجنائزية تدق أجراس الذواكر؛ لتمثل برمتها شاحبة وفاغرة؛ لتصطف عبر جسد الحرف حيوات أخرى بلا بداية أو نهاية من المراحل الحنينية والربوت على كتف الروح أو خلق عزاءات إسقاطية أو مموضعة أيد الآس لتمنيخ (صحي) و(واعي) متى ستنتهي غربوية الإنسان الزمكانية، وأنى للمبدع تحسس كفوف الأمان في ظل راهنية شراسة عالمنا البشع؟
_ أنت وصفته بأنه «عالم بشع»، وهذا حقيقي طبعاً. نحن نغترب في حالتين: الحالة الأولى اغتراب داخل الوطن نفسه عندما لا يشعر الإنسان بأن له مكانًا في أرضه وبلاده وبين ناسه ومحيطه، يشعر بأنه معزول ويعيش في دائرة ربما لا يستطيع أن يتواصل من خلالها مع الآخرين بسبب ثقافي أو بسبب حضاري أو لأسباب أخرى مختلفة؛ فيُحدث هذا نوعًا من العزلة, وقد يعيش الإنسان في ظروف حياتية قاسية، يضطر بعدها للتنقل إلى أرض أخرى، ربما كانت تلك الأرض أرحم بسبب ما يعانيه وطنه. أنا كنت من هؤلاء الذين ارتحلوا منذ أكثر من عشرين سنة من أرضهم إلى أرض أخرى.
الإنسان الذي لا يفتر قلمه تظل غربته قائمة وعسروية
لكن الكاتب لا يرتحل وحده؛ لأنه كلما أنتقل كانت أرضه في قلبه وعلى ظهره وبين يديه وداخل قلمه؛ فالأرض لا تموت بالنسبة للكاتب، ولا يمكن أن ينفصل عنها، ولكنه ينتقل مكانياً فينقل معه هذه الأرض المغيبة، كما أنه في الوقت نفسه يتعلم من تلك الأرض التي يعيش عليها، والتي تمنحه منظورات جديدة وثقافة جديدة وعلاقات جديدة، تستطيع أن تغير من بنيته الثقافية، أو لنقل يستطيع أن يتقنها بشكل جيد. إذًا، متى تنتهي هذه الغربة؟ طبعًا الإنسان الذي يكتب من الصعب أن تنتهي غربته، وخصوصًا الإنسان المبدع والفنان؛ لأنه مع غربته المكانية والنفسية هناك الغربة الوجودية التي تمس العالم كله. نحن نعيش على أرض لا شيء فيها، أصبح اليوم مضمونًا لبعض البلدان في العالم, بالإمكان تدمير هذه الأرض مئات المرات وتحويلها إلى ذرات تعوم في الفراغ, هذا العالم الذي اخترق غلاف الأوزون، ودفع بالأرض إلى أن تغير دورتها، وأن يختل نظامها, هذا العالم وجوديًّا غير مريح! وهو ما يعمق هذه الغربة, لكن مع ذلك تظل إرادة الإنسان إرادة قوية، وتمنحه فرصة التغيير والتساؤل، وربما أيضا تغير المسارات. ولهذا أقول عن نفسي «المتفائل الدائم وليس المتشائم»؛ لأن التفاؤل قراءة لنفسية الإنسان العميقة وما تصبو إليه وما تريده, وهو قراءة للوجود الاجتماعي والحضاري الذي يتغير . صحيح أن ما نعيشه اليوم قد يكون سيئًا مثل الفترات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، والتي تلتها من مجاعات وانكسارات وخيبات، لكن مع ذلك، فإن البشرية تملك طاقة خلاقة، تستطيع أن تغير بها النظم القاسية التي نعيش داخلها اليوم.
* اللغة مدينة شاسعة، نبراسها بيت لغة الأم الكبير، وبجانبها بيوتات متجاورة «اللغات»، تفتح السبيل لتدويمة هذه الدينامية في سر عظمنة اللغة وتجليها الفخم، ونلحظ في أبجديتك الحوارية أو كما يصفها «باختين» بالتعددية اللغوية فنراك تطير كالفراشة ترحق من أفانينها وتلثم زواكيها شروفك على نوافذ هذه البيوتات وتمهيتها نصلك السمهري قد دبج المدينة وآخى بينها بشكل مهير، قد رتق مثلبها واغتضفها بستان الخلب؟
_ هذا ما لاحظه الكثير ممن قرؤوني من النقاد العرب وغيرهم من العالم من المهتمين بالترجمات. من يقرؤني يشعر بما يسميه الكاتب الروسي «باختين» الحوارية اللغوية أو التعددية اللغوية. هناك التعددية اللغوية داخل البيت الواحد. أنا في بيت كبير اسمه اللغة, هذا البيت الكبير يمنحني فرصة التعدد. بمعنى أنه مكوّن من مجموعة من الغرف, غرفة كبيرة خاصة باللغة العربية - طبعاً اللغة العربية أكتب فيها وأنام فيها وأجد تربتي وروائحي وطفولتي أيضاً فيها - لكن هناك بيوتات أخرى مجاورة لهذا البيت العربي, بيت اللغة الفرنسية, وبيت اللغة الأمازيغية الذي آوي إليه كلما عادت مسألة الأصول إلى الواجهة الداخلية، ليس بالمعني العنصري أو الضيق، ولكن بالمعنى الإنساني والتشكيل الثقافي والحضاري؛ لأنها قدمت للإنسان الكثير في ذلك الوقت. إذًا، هذا البيت هو بيت جميل؛ يمحني فرص الانفتاح على العالم، وأن لا أضيق من مساحة بيتي العربي.
في بيتي العربي نقائص كثيرة
بيتي العربي جيد، لكن في بيتي العربي أيضًا نقائص كثيرة. أرمم هذه النقائص في البيت الفرنسي، وأيضًا أجد في البيت الإسباني جزءًا من بيت أجدادي العربي، روائحهم، عرقهم، خيباتهم.. أجدها أيضاً باللغة الإسبانية كلما أصابتني قسوة اليأس ومس البرد ظهري.. أقبِّل آثار خطواتهم القلقة. إذاً، نحن داخل بيت جميل مبني بإيقاعات أندلسية؛ وهذا ما يعطيني فرصة التعدد وفرصة الخروج من دائرة الضيق.
* الملاحظ أنك تستنبط قصصك من الواقع واللغة أثناء بناء النص وتأسيس العملية العلائقية، تتحول من وظيفتها الدلالية إلى وظيفة التصور، وبالموازاة تتلاشى معانيها الحرفية؛ لأنها لم تعد تتناسب مع الأنساق التخييلية الجديدة. هل يمكن اعتبار هذا التحول الوظيفي إفراغًا للغة من مرجعياتها؟
_ اللغة لها منشأ، ولها ناس يستعملونها. هؤلاء الناس الذين يستعملون اللغة مشروطون بحقبة زمنية معينة. هذه الحقبة الزمنية المعينة أيضاً لها مكان وتاريخ وزمن. إذًا، اللغة ليست كتلة جامدة، وليست كتلة يابسة؛ فهي عبارة عن أشكال تعبيرية، تأتي وتروح ثم تعود ثانية. عندما تأتي ثانية كالجزر والمد تعود محملة بالأصداف وبالأمواج وبالأشياء التي لا تذهب للعين بسهولة، لكن علينا أن نتعمقها مثل حفنة رمل قطعة قطعة؛ حتى نستطيع أن نستخرج منها ما هو مهم؛ ولهذا أقول إن اللغة لها دلالات معينة، لكن وظيفة الكتابة أيضًا هي أن تدفع بهذه الدلالات إلى حالة إخراج لتلك اللغة، وإلى عودة التساؤل عن وجودها هي كلغة. إن ما استعملته اليوم وكان مفيداً ربما بعد عشرين أو ثلاثين سنة لن يعود كذلك. هذه الكلمة قد تفقد بريقها، وحتى لا تموت علينا أن نشحنها بتعابير وإمكانات تأويلية جديدة، تعطيها مضمونًا جديدًا غير المضمون الذي كانت تمتلكه.
اللغة مُتكأ معرفي وليست كلمات مرصوصة وغموضها كغموض الإنسان
كما أن اللغة المباشرة أحياناً تكون قاتلة، وتسطح النص؛ لذا نحتاج للبحث عن لغة تخرج عن التسطيح، وتدفع بالقارئ ليس فقط للقراءة وإنما لاستجلاء جماليات اللغة، والدخول في عمقها، وجعل اللغة متكأ معرفيًّا، وليس فقط عبارة عن بعض الكلمات المرصوصة. إذًا، إشكال اللغة هو إشكال مهم، وأنت عندما تحملني لغة بتعبيرات شعرية جديدة فكأنك تقول للغة المسطحة انتهت وظيفتك، وأحتاج للغة ذات محمول أغنى وأقوى وأسمى؛ لأستطيع أن أعبِّر عما أريده داخليًّا؛ لأن ما بداخلنا ليس دائمًا أمرًا واضحًا ومباشرًا؛ ولهذا اللغة تحمل شيئًا من الغموض، هذا الغموض كوجود الغموض الإنساني على وجه الأرض؛ لهذا علينا التعامل مع اللغة بهذه الحسية، وليس الحسية السطحية المباشرة.