فيصل أكرم
إذا طلب مني صديقٌ عزيزٌ أن أحضر له شيئاً من بلاد كنتُ فيها راحلاً إلى حيث بلاد تجمعنا، فإنني سأعمل جاهداً على تلبية طلبه.. ولن أحاول أبداً التلصص على ذلك الشيء الذي أحضره له معي.. لأنني سأعتبره بمثابة أمانة، وذلك يدخل في (أدب الأمانة) برأيي!
أمّا إذا كان الصديقُ العزيزُ شاعراً قديراً بحجم (سعد الحميدين)، وكانت الأمانة كتاباً يضمّ (رسائل غسَّان كنفاني إلى غادة السمَّان) في طبعته الجديدة، فإن من (أمانة الأدب)، برأيي أيضاً، أن يكون التلصصُ واجباً، إن لم تكن قراءة الكتاب كله ممكنة قبل إيصاله إليه!
وفي حقيقة الأمر أنا لستُ من عشاق كتابات الأديبة غادة السمّان، ولم أقرأ لها إلا في صباي كتاباً واحداً (لا بحر في بيروت) ولم أعد أذكر إن كان رواية أو مجموعة قصصية أو غيرها من أشكال الكتابة الأدبية التي تميّزت بها غادة السمان صاحبة المكانة الرفيعة في ذاكرة جماهير أجيال متعددة منهم الكتّاب والقرّاء.
كما أنني، في حقيقة الأمر أيضاً، لم أقرأ للأديب الشهيد غسان كنفاني (1936 – 1972) بقدر ما قرأت عنه في كتابات أصدقائه من الأدباء، وقد أصبح رمزاً يجب التوقف عند رواياته وقصصه وسيرته.. غير أنني – بالأساس – لستُ مهتماً بقراءة الروايات والقصص.
أمّا هذه الرسائل، الصادرة منذ طبعتها الأولى عام 1992 حتى طبعتها الثامنة العام الماضي 2016 مع ملحق بمقتطفات من آراء نقدية لـ 220 كاتبة وكاتب، فلم أقرأ منها سوى الآن رسالة واحدة كدتُ معها أن أقول (حرااام) فهي تكشف نقاط ضعف كثيرة كان الحبُّ في قلب عاشقٍ يضغط عليها باتجاه حبيبةٍ.. وكدتُ ألعنُ هذه الحبيبة التي باحت بهذه الأسرار محتفظة بأسرار كتابتها هي له.. لولا أنني عدتُ إلى مقدمة الكتاب فوجدتُ غادة تقول:
(رسائله عندي ورسائلي عنده كما هي الحال لدى متبادلي الرسائل كلهم، وأنتهز الفرصة لأوجه النداء إلى من رسائلي بحوزته - أو بحوزتها - نداء أشاركهم فيه محبة غسان وأرجوهم جعل حلم نشر رسائلنا معاً ممكناً كي لا تصدر رسائل غسان وحدها حاملة أحد وجوه الحقيقة فقط بدلاً من وجهيها.. وأنا والحقّ يقال لا أدري أين رسائلي إليه..) وتؤكّد بإصرار أدبيّ في غاية النبل: (وريثما أحصل على رسائلي إليه فأنشرها ورسائله معاً، أكتفي مؤقتاً بنشر رسائله المتوافرة، بصفتها أعمالاً أدبية لا رسائل ذاتية أولاً، ووفاء لوعد قطعناه على أنفسنا ذات يوم بنشر هذه الرسائل بعد موت أحدنا، ولم يدر بخلدي يومئذ أنني سأكون الأمينة على تنفيذ تلك الرغبة الكنفانية - السمّانية المشتركة).
وبعد، فأقول: إنني سأتوقف عن التلصص على هذه الرسائل بالقراءة، حتى أمنع نفسي من الوصول إلى درجة التشكيك في أمانة الأديبة القديرة غادة السمّان، فالأمانة محلّها الضمير، والضمير لا يعلمه إلا الله دائماً، وأحياناً بعضُ أصحابه.. وكلّ ما أرجوه ألاّ ينشر أحدٌ رسائلي إليه - أو إليها - بعد موتي أو حتى استشهادي، فلا أظنّ أنها تصلح للنشر على الإطلاق، ولو كانت تصلح لما تأخر الأديبُ عن نشرها كلها وهو مستمرٌّ في نشر كتاباته طيلة حياته؛ وقد كانت لي وقفات مماثلة مع مثل هذه الرسائل والكتابات التي تنشر بعد موت كاتبها، أذكر منها مقالة عنوانها (المتاجرة بوريقات الراحلين) نشرت هنا – في الجزيرة - قبل سنوات، ولا أزال عند رأيي، وقد ازددتُ إصراراً عليه بعدما قرأتُ رسالة واحدة فقط من هذا الكتاب - الرسائل؛ فالرسائل الشخصية أمانة.. وللأمانة آداب لم أجدها تكتمل هكذا، كما أن للأدب أمانات لم أقتنع بوجودها مكتملة أيضاً. وأرجو أن أكون مخطئاً.