كنت أعمل طوال الأسبوع بمقدار ما أعتقد أنه ذو جدوى، ثم أعود إلى بيتي منهكاً لأتلقى طلبات الزوجة والأولاد والسائق والشغالة، وكثيراً ما أنسى طلباتي الشخصية. في بداية كل أسبوع أشعر بمتعة في إنجاز عملي وإيفاء متطلبات الحياة في البيت، بل أشعر أن هذه المتعة هي الحياة نفسها.
تمضي أيام الأسبوع وتزداد الطلبات أو ربما أنا أشعر أنها ازدادت، وقد أؤجل بعضها فتتراكم، ثم تتحول بالتدريج إلى عبء وتختفي المتعة وتغرق - عيناي في أسى شفيف دفء الشتاء فيه وارتعاشه الخريف - كما قال السياب.
تأتي نهاية الأسبوع لأزيل ذلك العبء وأتفرغ للقاء الأصدقاء ولعب (البلوت) - إنْ أمكن - فأتجدد للأسبوع التالي ويتكرر المشهد. ولكن الأمر برمته يتحول مع مرور الزمن إلى روتين، حيث تتردد الوجوه نفسها والألفاظ والقصص والكبسة، وإنْ دخلت وجوه جديدة في (الشلة) سرعان ما تصبح من ضمن الروتين المعهود.
حاولت بجهد مضاعف كسر الروتين وعدم السماح لتسلل الحزن إلى وجداني، لأنني بأمس الحاجة إلى التجديد كي أستطيع تحمّل (الكَرْف) في العمل ومسايرة متطلبات البيت والأقارب، ولكن لم ينفع حتى السفر في العطلة الصيفية وغير الصيفية لكسر ذلك الروتين المقيت، حتى انتابني شعور أن الحياة ساكنة سكون القبور، ولا أُفق للتجديد.
فجأةً التقيت بأبي يعرب (محمد عبد الرزاق القشعمي)، وبعد نصف ساعة أو أقل أو أكثر لا أذكر، كسّر أبو يعرب كل الحواجز المعروفة في التاريخ والجغرافيا، وشعرت أنني أعرفه منذ طفولتي، بل قبل أن أولد، ولطمني بكمّ من المعلومات عن الصحافة وما دار ويدور بها، وعن الأشخاص الكتّاب وغير الكتاب، سواء أعرفهم أم لا، وكأنه يحمل ديوانية في قلبه لكل فيها مكانه المسبق.
يتكلم بسرعة البندقية الرشاش، حتى لا أكاد التقط كل ما يقوله، وإذا تحدث عن سهرة يذكر الأشخاص جميعاً وحديث كل واحد منهم، إنه ببساطة شديدة (ذاكرة وطن) ومؤلفاته مراجع لطلاب الجامعات، وما أثارني أكثر هو مقدار الفرح الذي أدخله إلى وجداني منذ اللقاء الأول ذاك.
صرت أتجدد في كل لقاء معه، بل أشعر أن طاقتي للعمل والبيت والأولاد والأقارب والأصدقاء لم تكن يوماً بهذه الحيوية، وأصبح أبو يعرب جزءاً لصيقاً في وجداني لا غنى عنه. ولا أبالغ إنْ قلت إنّه (الفرح المتجدد) لي وللكثيرين أمثالي، الذين ظنّوا أن الحياة رتيبة ولا أُفق للفرح في الظلام.
صار أبو يعرب وصلاً بيني وبين من أعرفهم ومن لا أعرفهم، حتى أنني تعرفت بأشخاص لم أرهم قط في حياتي حتى هذه اللحظة، وهو يعرف تماماً من يتوافق مع من، فليس لديه عوائق قبلية أو مناطقية أو طائفية أو مراتبية في السلّم الاجتماعي، وكأن تصنيف البشر غريزة لديه، أما هو ذاته فيتوافق مع الصغير والكبير، والفقير والغني، والكاتب والقارئ، ولا يهمل البعيد ولا القريب، يؤدي كل الواجبات الاجتماعية ويؤثر على نفسه فلا يطالب بحقوق.
عندما دخل المشفى حسبت أنه سيخرج بعد أسبوع، فهو سريع في كل شيء حتى في الاستشفاء، ولكنه أطال هذه المرّة مجبوراً، وقد يكون السبب إهمالاً لنفسه -كما فهمت- فشعرت أنني حبيس وجداني أنا، وكأنني مطوق، فأدركت أن أبا يعرب ليس شخصاً واحداً، إنّه كلنا مجتمعين في ديوانية هذا القلب الواسع وسع الوطن، بل باتساع أوطان.
- د. عادل العلي