1
طُرِح في الإعلام من خلال قناة mbc قبل شهر رمضان الماضي( 1437هـ) إعلانات لمسلسل عدّه بعضهم الأول من نوعه وهو «حارة الشيخ» ، وهو حسب توصيف القائمين عليه من مؤلف ومخرج وممثلين: دراما تحكي حياة مدينة جدة في أواخر العهد التركي ، قبل قرابة مئتي سنة . واعتمد الكاتب ــ فيما ذَكَر في حديث له عبر بعض القنوات ــ على مصادر تاريخية وثقافية ، رادّاً بذلك على من شنّ هجوماً شديداً على المسلسل ، مصوِّراً إياهم بأنهم جهلة ومتهورون ؛ إذ كيف ينشدون معلومات تاريخية دقيقة ــ حسب كلامه ــ في عمل درامي لم يُقصد به التوثيق ؟! وكيف يجحدون الثقافة التي تحكيها الدراما عن حياة جدة قبل مئتي سنة مدعين أنها تزوير لثقافة الحجاز الأصيلة التي تمثلها القبائل في نظرهم ، في حين أن مصادر تاريخ جدة وثقافتها لا تذكر لنا ــ حسب تصريح كاتب المسلسل بندر باجبع ــ سوى ما يتفق وينسجم مع ما يعرضه مسلسل حارة الشيخ من قيم وأفكار ولغة وسلوك وتقاليد في الملابس والأطعمة والمساكن والفنون...إلخ.
وعبّر خصوم المسلسل ومهاجموه عن موقفهم منه في تويتر من خلال وسم «هوية الحجاز» ، وقد بدؤوا بالهجوم على المسلسل قبل عرضه في شهر رمضان الفائت ، ولا زال الوسم فعالاً إلى لحظة كتابة هذه الحلقات.
وفيما يلي عرض وتحليل لهذا الموضوع على ضوء منهجنا المقاصدي في اللسانيات الثقافية الذي سلكناه في كتاب «نظرية العرف اللغوي ـ نحو منهج في علم اللغة الثقافي» ، وذلك من خلال العناصر التالية:
1 ـ مفهوم الهوية.
2 ـ توصيف لطرفَي النزاع ، ومعطيات الصراع.
3ـ تحليل ونقد التنازع بين الطرفين.
4ـ خلاصة الرأي.
أولاً : مفهوم «الهوية»:
هناك تعريفات مختلفة للهوية ، يمكننا تصنيفها تصنيفاً عاماً من خلال وضعها تحت الرؤيتين التاليتين:
1 ـ الرؤية الجوهرية:
وتقوم على فكرة التطابق مع الذات الفردية أو الجماعية ، وعلى فكرة الاستمرار. «يتركز سؤال الهوية على تأكيد مبادئ الوحدة في مقابل التعدد والكثرة ، والاستمرار في مقابل التغيّر والتحول» (مفاتيح اصطلاحية جديدة 701 ). كما تركز هذه الرؤية على الجوهر الثقافي المشترك والمستمر. «وتمثلت الحالة النموذجية لهذا المفهوم المحدد عن الثقافة الجمعية في الدولة القومية» ( السابق 702 ).
2 ـ الرؤية النسبية :
وهي القائمة على الفلسفة البنيوية ، خاصة فكرة القيم الخلافية التي تتحدد من خلالها وظيفة العنصر في شبكة المنظومة . ووظيفة الشيء هي معناه الذي تدل عليه قيمة المخالفة هذه . وبناء على هذه الرؤية «يتضح أن الهويات لا يمكن أن تكون مكتفية ذاتيا ؛ بل هي تتأسس في الواقع عبر لعبة الفروق ، وتتشكل من خلال العلاقات المتغيرة بهويات أخرى. وهكذا لا تنطوي الهوية على معنى إيجابي واضح ، بل تستمد تمايزها مما ليس هي ومما تستبعده ومن موقعها في حقل من الفروق والاختلافات». ( انظر السابق 703 ).
وكما أن لكلتا الرؤيتين ميزات فلكلتيهما أيضاً عيوب ؛ فتمتاز الرؤية الجوهرية بتوصيف الثوابت الثقافية التي تحفظ جوهر الثقافة وتكفل استمرارها ، ولكنها لا تعنى بتوصيف الجانب الديناميكي في الهوية ؛ ذلك الذي يساعد الثوابت على الاستمرار بالتعالق الفعال مع المتغيرات. وإذا كانت الرؤية النسبية تمتاز في توصيفها للهوية بالتركيز على الجانب الديناميكي الحيوي فيها فإننا لا نرى فيها اهتماماً بجوهر الثقافة وهو روحها وثوابتها ، ليس لأنها تغفل هذا الجانب بل لأنها قائمة على فلسفة لا تؤمن بفكرة الروح والجوهر أصلاً ؛ وهي فلسفة القيم الخلافية البنيوية التي تحدد المعنى وتميّزه من خلال مخالَفة العنصر البنيوي لمقابِله . وهناك عيب آخر في هذه الرؤية وهو أن «منطق التمايز قد يعمل أيضاً بطرق أكثر إشكالية ؛ إذ يصير التمايز استقطاباً ؛ حيث توضع هوية واحدة في موضع المقابلة الجذرية مع أخرى.. على سبيل المثال ، هذه هي الحالة في الفكرة التي تم إحياؤها عن الاختلاف الحضاري بكل تأملاته في تصعيد صدام الحضارات» (انظر السابق 703 ).
ويرى كيفن روبنز أن هذا الاستقطاب يعبر عن الجانب المظلم في الهوية ؛ «أي الطريقة التي تعتمد فيها الهوية في إستراتيجية تمايزها على خلق الفواصل والحدود لكي تنأى بنفسها وتحمي نفسها من التهديد المتخيل من ثقافات أخرى. وتتحدث الصورة المدوية لما بعد 11 سبتمبر عن عالم يستبد به الاستقطاب بين الحضارة الغربية والبربرية ( لدى سواها ) حديثا مباشرا عن مثل هذه المخاوف . وهكذا يمكننا القول إن هناك في الأغلب خوفاً في روح الهوية» ( السابق 703 ). والحق أن هذا الجانب المظلم الذي تحدث عنه روبنز هو نتيجة طبيعية للتطرف في الرؤية نفسها ، ذلك الذي يتقوقع على جزء من الحقيقة ويعتقدها الحقيقة كاملة ، فمن ثم يفتقد الإنسان توازنه الثقافي وتقع الأمراض الفكرية والسلوكية في الثقافة. ولم تسلم الرؤية الجوهرية من هذا الاختلال، ففي كلٍّ تحزّبٌ لجانب على الجانب الآخر.
ولأجل هذه العيوب في الرؤيتين المذكورتين لابد لنا من طرح رؤية بديلة ، على ضوئها نتصور الهوية تصوراً مناسباً لثقافتنا الإسلامية العربية ، وفي إطاره يمكننا طرح موضوعنا وتحليل مشكلاته ونقد قضاياه ، وهذه الرؤية هي ما نسميه:
3 ـ «الرؤية المقاصدية»:
وقد سبق لنا شرح خطوطها العريضة ــ من وِجهة لسانية ثقافية ــ في كتاب «نظرية العرف اللغوي ـ نحو منهج في علم اللغة الثقافي» ( انظر 41 ـ 72 ). وتقوم هذه الرؤية المقاصدية للهوية على ما يلي:
1 ـ الربط بين الثوابت والمتغيرات في الهوية.
2 ـ الثوابت هي المقاصد العليا والقيم الكبرى للثقافة ، وعلى رأسها الإسلام ، والعربية الفصيحة ، والقيم الخلقية ، والوحدة ...إلخ .
3 ـ المتغيرات هي الأنماط والوسائل ، وهي متنوعة على حسب تنوع الأعراف لغوياً وثقافياً ، بعد اعتصام بيئات الأعراف المتنوعة بثوابت قيمية واحدة تصهر جميع المتغيرات في منظومة قيمية واحدة ؛ أي في هوية ثقافية واحدة. وهذه الأنماط المتنوعة هي العادات والأعراف التي تتشكل في الأفكار والسلوك لغةً وأنظمة اجتماعية وقوانينَ وفنوناً ومساكنَ وملابسَ وأطعمةً ... إلخ.
فالرؤية المقاصدية تحتوي حسنات الرؤيتين السابقتين ؛ كالوحدة الجوهرية في الرؤية الأولى ، والديناميكية في الرؤية الأخرى ، وتخلو من سيئاتهما ؛ كالجمود في الأولى والذوبان والاستقطاب في الأخرى.
والهوية الثقافية حسب الرؤية المقاصدية لها روح وجوهر مشترك ومستمر هو ثوابت الثقافة وقيمها الكبرى ، وهذه الروح الجوهرية كامنة في عمق كل الأنماط المتنوعة التي يمكن تصويرها بدوائر صغرى متنوعة تحويها دائرة الهوية الكبرى ، وحينئذ تكون وظيفة كل عرف نمطي هي التعبير عن الاختيارات الجماعية الحرة من الإمكانات التي تتيحها ثوابت الهوية الكبرى. وعلى قدر الثراء الكامن في هذه الثوابت يكون ثراء الأنماط الظاهرة وتعددها ؛ أي على قدر ثراء البنية العميقة للهوية يكون مقدار التعدد والثراء في البنية السطحية للهوية المتمثلة في أشكال الأنماط ووسائلها . ومن هنا نعلم أن مدار الأمر على هذه الثوابت الكبرى والقيم العليا ، فيجب دائماً حمايتها مما يهددها ، كما يجب دائماً مراجعتها ـ في فترات الضعف والنسيان ـ وتجديد الوعي بها وتصحيح الأغاليط والأوهام بشأنها ، وتهيئة النفوس (أفراداً وجماعات) للتأثر التلقائي بها ؛ فإنها لا تعمل بفاعلية إذا لم تكن النفوس مؤمنة لها والعقول مقتنعة بها.
د . خالد الغامدي - أستاذ اللسانيات الثقافية بجامعة الطائف