لا يخفى على المتابع لجانب الحراك الفكري السعودي القديم منه والحديث تأثير تيار ما يسمّى بالصحوة الإسلامية منذ بداية فاعليتها في تركيبة المجتمع السعودي، ولعل تجربتي كانت بسيطة بالقياس مع الشريحة الكبيرة للمتأثرين بها والتي كانت أكثر تأثيرا وديمومة ودموية !
ولمن لا يعرف ماذا يعني مصطلح الصحوة؟ فإنها حركة أيديولوجية تدعو إلى تهذيب النفس الإنسانية «كما تزعم» على القيم والسلوكيات الإسلامية وجعل أفراد المجتمع أكثر تمسكا بالدين في جميع تفاصيل حياتهم ولا أريد تبيان نشأت وتاريخ الصحوة وبدايات دخولها لمجتمعنا السعودي كي لا أذهب بعيدا عن مقاصد العنوان.
ولعل مسألة الأدلجة وأهدافها لم تكن واضحة المعالم خاصة من البسطاء أمثالي في ذلك الوقت كوننا كنا نعتقد أن هذه بداية الهداية وأن النهاية يجب أن تكون إسلامية على خطى الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح حتى وإن اضطرنا ذلك لتجاوز جميع العوائق التي رسمها الغرب لنا كما يزعمون !
بدأت تجربتي من المرحلة الدراسية المتوسطة حيث نشأت قبلها في بيئة دينية ليست متزمتة ولكنها معتدلة إلى حد كبير، وكان الخطاب الوعظي الديني ملازما لي من خلال حلقات تحفيظ القران في قريتنا الصغيرة ومن خلال مدرسي القرآن والذين لم يكونوا مؤدلجين أو لم يكن الخطاب الوعظي حاضرا لديهم بشكل مباشر.
بعد أن انتقلت للمرحلة المتوسطة كان بعض المعلمين «البسطاء على ما أعتقد» ينتقون بعض الطلاب الذين يحظون ببروز في مستواهم التعليمي والقيمي ويقومون بإلزامهم لحضور برنامج مسائي وكنت من ضمن الطلاب الذين أجبروا على الحضور ولا شك أن الأمر كان مفرحا لنا بشكل كبير؛ كونه عنوانا على تميزنا بين زملائنا في المدرسة
ماذا كان يحدث في المساء ؟
حين حضورنا كان أحد المعلمين يسبقنا للمدرسة لتحضير جهاز العرض الضوئي «البروجكتر» مع بعض الأطعمة التي كنا نفرح بوجودها وكان ذلك ترغيبا لنا وترحيبا بنا.
يتم بعدها عرض أفلام جهادية متنوعة وقد علق في ذهني جهاد خطاب في الشيشان وتصويره على أنه المقاتل الذي لا يشق له غبار ويعرض أيضا شريط كان يعرف بمسمى جحيم الروس ولك أن تتخيل عزيز القارئ حجم الشحن العاطفي والنفسي الذي كان يشحن به مجموعة من الأطفال والمراهقين، وكيف لذلك أن يغرس في أذهانهم في وقت مبكر ومبكرا جدا.
تمت تلك البرامج على أكمل وجه ولمدة طويلة والتي رافقها برامج صيفية كانت تسمى بالمخيمات الصيفية وأذكر منها أن بعض الدعاة «المشاهير» كانوا يحضرون آلات موسيقية ويقومون بتحطيمها أمامنا لغرض إرسال رسائل لنا بسذاجتهم ومحدودية فهمهم للدين أن هذه الغاية من الدين طبعا يرافق هذه البرامج خيمة كانت تسمى خيمة الآخرة، على ما أعتقد كان يحفر بها قبر ويقوم الواعظ «السطحي» بقراءة آيات العذاب، وأذكر من باب الطرفة أن أحد أصدقائي سقط في تلك الحفرة وكان ذلك نذير شؤم منا بأنه سيحل موته قريبا !
انعكس ذلك الخطاب الوعظي المتدفق بأن ارتوت شخصياتنا بالتدين السلبي وغير الموجه، وأذكر أنني كنت قد ذهبت إلى مواطن الكفر والشرك في منزلنا الهادئ وقمت بإحراق صور والدي رحمه الله والتي أتحسر على حرقها لهذه اللحظة بعد أن رأيت أغلب دعاة الصحوة يحتفطون بصورهم القديمة! وقمت بتربية «لحية» صغيرة مضحكة كنت أشاهدها كل مساء وأخال أنني أحد المسلمين النوادر الذين فهموا الدين حيث طلبت من أمي بعد أن أحرقت الصور أن أحطم جهاز «الدش» والذي كنت أراه يصب علينا المعاصي صبا على حد تعبير أحد مشاهير الدعوة في ذلك الوقت وحتى هذا اليوم ومن حسن الحظ أن أمي رفضت ذلك الطلب؛ حيث كانت أكثر فهما للدين من فهمي السطحي والبسيط.
بعد ذلك بفترة قصيرة قامت الأنشطة الإرهابية للقاعدة وكنا نسمع عن حدوث تفجيرات وقتل لرجال الأمن والدبلوماسيين، وكنا في المنطقة الرمادية بين البياض والسواد ولا أخفيكم أننا مع بقية الطلاب المتميزين المتدينين في المدرسة كنا قنابل موقوته ورحمنا الله أنه لم يكن هناك أي شخص يحرضنا على المشاركة في هذه العمليات بشكل مباشر وإلا كانت العواقب وخيمة على وطننا ومجتمعنا!
ما أريد قوله إن الخطاب الديني الترفيهي في ذلك الوقت كان بسبب نقص الخطاب الضدي له كأن يحذر من خلال أنشطة معينة بضرورة تعلم التدين الحقيقي وعدم إشغال الفارغين روحيا بعاطفة دينية لا تتزامن مع وعي وعلم حقيقي لفهم الدين.
من المؤسف أن ذلك الخطاب الوعظي الهش والسطحي يعود للواجهة من جديد، وتلك المراكز التي كانت تحطم بها الالات الموسيقية ويدعى فيها كبار الوعاظ الذين يخطبون عن حجاب المرأة وأنه يتهم بالدياثه أجلكم الله من لا تخرج أخته ساترة مستترة.
والسؤال: ماذا لو كان ذلك الخطاب أكثر تعقلا وانفتاحا وتلك الفيديوهات كانت عن صناعة الذات وبناء الأوطان والمستقبل مع تطعيمها بما يسندها من آيات وأحاديث نبوية صحيحة ؟
أعتقد أنه لو حصل ذلك لأوجدنا جيلا أقل دموية وأكثر حبا للحياة وقبول الآخر، وتلافينا الكثير من الأرواح الشابة التي قتلت في مواطن النزاع باحثة عن مجد وعد فيه دعاة يتمنوا على الله الأماني ولا أخالهم إلا أنهم دعاة على أبواب جهنم.
أخيراً.. أتمنى أن يقف المثقفون ووسائل الإعلام ومشاهير التواصل الاجتماعي لوقف هذا النزف الكبير في عقول الناشئين، وأن يجعلوا الخطاب أكثر اعتدالا ليكون المجتمع أكثر تحصينا ووعيا، وأن يوقف الدعاة حافروا القبور ومحطموا الالات الموسيقية الذين حفروا وحطموا قلوب آلاف الأمهات والعوائل جراء خطابهم السخيف الذي أصاب المجتمع بالدمار وقاده إلى الويلات !!
- خليل الذيابي