تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا إلى القراء العرب. البروفيسور هاتينا هو أستاذ مشارك، قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
لقد كانت منزلة الدين في الدولة إحدى أكثر القضايا سخونة على أجندة السياسة المصرية، منذ التقاء مصر مع الغرب في القرن التاسع عشر. وقد تكون مصر أصبحت أكثر حداثة وتغريباً من أية دولة إسلامية أخرى، باستثناء تركيا؛ ولكنها لم تتخل، أبداً، عن الوحدة الجوهرية القديمة بين الدين وبين الدولة أو هيمنة الشريعة على الأحوال الشخصية. وبحلول مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، جرى تعديل الدستور المصري وصادق الشعب عليه عبر استفتاء، لتصبح مبادئ الشريعة الإسلامية «المصدر الرئيس» (بدل مصدر رئيس) للتشريع في الدولة. وفي عام 1985، جرى تعديل قانون الأحوال الشخصية، الصادر عام 1979 والذي حَسَّنَ حقوق المرأة في حالات الطلاق وحضانة الأطفال، من أجل استرضاء الدوائر الإسلامية.
كما حدد التوتر بين التقليد وبين التغيير معالم الخطاب الثقافي في مصر في مسائل الإيمان والأعراف الدينية. وخلال تاريخ مصر الحديث، سعى العديد من المفكرين المسلمين إلى فصل الدين عن الدولة؛ غير أنهم وجدوا أنفسهم على هامش الإجماع، بعدما واجهوا اللامبالاة من قبل الحكومة والاستنكار من قبل الإسلامويين. وكان علي عبد الرازق وخالد محمد خالد وفرج علي فودة أبرز هؤلاء المفكرين؛ فقد نشط الأولان في المقام الأول خلال المرحلتين الملكية والثورية (1923-1970)، ونشط الأخير في مرحلة ما بعد عبد الناصر. ويكشف التحليل المقارن لآراء لهؤلاء المفكرين استمرارية الاتجاه بجانب تغييرات في التفكير تعبر عن السياق التاريخي الذي نشط فيه كل منهم.
ودلت نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية على وقوع تحول من النظام الإمبراطوري القديم في الشرق الأوسط الإسلامي إلى تأسيس الدول القُطرية. وفي مصر، صحب هذا التحول تغير في نوع الوطنية المحلية، بقيادة أحمد لطفي السيد وحزب الأمة، من حركة مثقفين مرتبطة أساسا مع عائلات ملاك أراض واسعة إلى حركة شعبية. (1) وتجلت النوعية الجديدة من الوطنية تحت إشراف سعد زغلول (1857-1927) في انتفاضة قادها ضد الإنكليز في عام 1919 بالتعاون مع حزب الوفد، والتي اعتبرت كثورة من قبل جميع المصريين، خاصة المثقفين. (2) وقامت ثورة 1919 بدور رئيس في الترويج لفكرة الوطنية المصرية الإقليمية، التي تعززت عبر 100 عام من الحكم الذاتي من إسطنبول. ولعل أبرز مؤشرين على طريق الاستقلال كانا: إعلان بريطانيا استقلال مصر من جانب واحد في عام 1922، وتأسيس نظام ملكي دستوري في عام 1923.
وبقيت قضية العلاقة بين الدين وبين الدولة بدون حل. وبالرغم من ترسخ قيم الليبرالية الوطنية لدى النخبة السياسية، فإن دور الدين ومؤسساته لم يتم مواجهته كما فعل مصطفى كمال في تركيا؛ بل بالعكس، فقد أدى استمرار التعليم التقليدي في الكُتَّاب وفي الأزهر حيث درس زغلول، إلى انتشار مبادئ الشريعة الإسلامية باعتبارها قواعد أخلاقية توجيهية للمجتمع. وأشار الباحث بي. جيه. فيتيكيوتيس إلى أن العلاقة الفريدة بين النخب السياسية الشرق أوسطية وبين فرنسا وبريطانيا عرقلت تبني توجهات وأخلاقيات دينية أكثر تقليدية في سياسات دولهم. (3)
الحاجة إلى المصادقة الدينية على نشاط الحكومة ومعارضة العلماء للإصلاح المؤسسي الذي كان البلاط الملكي يدعمه عاملان دفعا النخبة السياسية إلى تطوير نظام تعليمي علماني ليكون مكملاً وليس بديلا للنظام الديني. وبالإضافة إلى ذلك، ونظرا لكون اقتصادها يعتمد على الزراعة، كانت مصر تفتقر إلى قدرات هيكلية كافية لاستيعاب التغيرات الاجتماعية-الاقتصادية العميقة في معدلات معرفة القراءة/الكتابة والتحضر التي حدثت في القاهرة ومدن أخرى خلال العشرينيات والثلاثينيات. وأدى ذلك إلى إعاقة تحول مصر من مجتمع زراعي قائم إلى مجتمع صناعي. وكما أشار المفكر إرنست غلنر: «الحضارات الزراعية لا تولد الوطنية؛ ولكن المجتمعات الصناعية تفعل». (4) ومن ثمّ، كان المجتمع والثقافة المصرية يتطوران في حالة تعايش متناقضة، أي التغيير بجانب التقليد كما ورد في دستور 1923.
يؤكد البندان الـ3 والـ12 من الدستور على المساواة التامة وحرية الدين؛ ولكن في الواقع لا تسمح الشريعة الإسلامية بالمساواة بين المسلم وبين الذمي، كما ترفض حرية الاعتقاد؛ لأن الشريعة تفرض عقوبة الإعدام على أي مسلم يعتنق ديناً آخر. ويشير البند الـ13، انطلاقا من هذه الروح، إلى أن حرية العقيدة لجميع الأديان والمذاهب محمية «وفقا للأعراف الموجودة في مصر». ويحدد البندان الـ23 والـ24 الشعب كمصدر للسلطات ويعطيان البرلمان السلطة الكاملة للتشريع، بينما يقرر البند الـ149 أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي بدون توضيح لما يقتضيه ذلك؛ ولكن كما ينبغي لدولة تسيطر عليها أحكام الشريعة الإسلامية، فإن الله وليس الشعب أو ممثليه هو مصدر السلطات والتشريع. (5)
وبالرغم من أن البند الـ149 يرد قرب نهاية نص الدستور، فإن هذا الترتيب المتأخر لا ينبغي تفسيره بأن الإسلام يحتل مركزاً هامشياً في الحكومة البرلمانية المصرية الجديدة لعدة أسباب. أولا، الترتيب المتأخر للبند الـ149 لم يضع حدا للجدل العام حول منزلة الدين في الدولة الذي اندلع في وقت مبكر من العشرينيات؛ بل كان الأزهر يستشهد بالبند الـ149 كثيرا لدعم حججه ضد من يهاجمون الدين ومؤسساته. ثانيا، الدستور المكتوب لا يكون فَعَّالاً إلا بقدر دقة تنفيذه عملياً؛ وهو أمر يخضع للمشرعين والفقهاء. وفي السياق المصري، تميل الفروع الحكومية إلى التعامل بحذر وبراغماتية مع جميع القضايا الدينية، خصوصا في العشرينيات والثلاثينيات نظراً لوعيها بموقع الإسلام الراسخ في المجتمع. ثالثا، ونظراً لأن الملك كان يملك سلطة الإشراف على المؤسسات الدينية وتعيين مديريها (البند الـ153)، ومن ثم تعزيز قوته السياسية، فقد شن الأزهر حملة لرفع مكانة الملك إلى «خليفة»؛ وهو ما دعا الملك إلى تسليط الضوء على البند الـ149 علنا، كما سيتضح من قضية علي عبد الرازق الموضحة أدناه.
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com