علي الخزيم
وقف عند الإشارة المرورية حال اصفرارها امتثالاً للأنظمة واحتراماً للذوق العام، وكان خلفه سيارة شبابية يبدو أن قائدها المراهق عازم على تجاوز الإشارة بدليل وميض أنوار سيارته المتتابع في إشارة له وحثِّه على متابعة المسير دون توقف، وحين لم يمتثل لرغبته حوَّل سيارته إلى جانبه وقذفه بعبارة (يا كلب)! ابتسم الرجل العاقل بارتياح؛ وقال له: شكراً لقد أحسنت الظن بي، سأله من كان يرافقه: وصفك بالكلب فشكرته على حسن ظنه؟! أجاب: بأن الكلب من خير خلق الله وفاءً وإخلاصاً لصاحبه وأهله، لا يخون ولا يسرق ويُحسن الصحبة؛ ما عدا حالات نادرة بظروف خاصة قد يَمُرُّ بها كلب أو مجموعة من الكلاب لا سيما المتوحشة بالبراري إذا أعياها وأنهكها الجوع.
كثيراً ما نسمع غاضباً ينعت آخر بهذا الوصف الحيواني، بل يؤصِّل له بأنه ابن كلب، وأكثر ما يألف الإنسان من الحيوان الكلاب، وأكثر شتيمة يتلقاها الإنسان من أخيه الإنسان هي بوصفه بأنه ذاك الحيوان ابن ابيه، فالكلب هو اختيار الإنسان للحراسة والصيد والرفقة بالسفر والمساعدة برعي القطيع، لكنه بالمقابل هو اختياره الأول واستحضاره المباشر حين الشتيمة والبذاءة، أعان الله الكلاب الوفيَّة على جور بعض البشر ناكري الجميل، وهنا لك أن تستذكر عنوان كتاب (فضل الكلاب على كثير ممَّن لبس الثياب)، كتبه (المحولي) يرمز من خلال حكاياته ومضامينه شعراً ونثراً لفساد أخلاق بعض البشر وسوء علاقاتهم بالآخرين ممن حولهم.
لا يفوت على الذهن ما ورد في مسألة نجاسة الكلب واقتنائه لغير حاجة واختلاف بين المذاهب في جزئيات منها، غير أن هذا الحيوان الأليف يبدو وكأنه قد وقع ضحية لمفاهيم خاطئة يتوارثها بعض بني الإنسان عنه واستقرت عندهم ظناً منهم بارتباطها بمسائل شرعية، ولعل من المناسب هنا استذكار أن القرآن الكريم أورد ذكر الكلب في مواضع ثلاثة هي: 176 الأعراف {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} الآية، حيث كانت وصفيَّة تشير إلى لهاث الكلب في كل أحواله نظراً لطبيعة خلقته، ولم تتضمن سلباً أو إيجاباً، وفي 18 الكهف {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، ويلاحظ أن الكلب داخل ضمن العدد في حسبة أصحاب الكهف، كما أن كلمة الرعب الواردة بالآية لا علاقة للكلب بها، وليست متصلة به في جانب الخوف والرعب، كما أن الآيات بالسورة الكريمة لم تتضمن أي جانب سلبي عن حضور الكلب مع الفتية المؤمنين، وورد ذكر الكلب للمرة الثالثة بالقرآن الكريم في الآية 4 من المائدة {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ} الآية، وهي آية تتعلق بأحكام الصيد بالكلاب وغيرها، وعليه: فلعل الرأفة بعزيز كلابٍ ذلَّ قد وجبت.