د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** يجيء التشديد الفقهي على عدم الحديث أو العبث بما قد يُشغل عن الاستماع لخطبتي الجمعة مؤشرًا على أهميتهما، ومتفوقًا على ما قُرر في الخطب المقاربة لهما كالعيدين والاستسقاء، وتقديمُهما قبل الصلاة -إذ لم تكونا كذلك في أول التشريع وفق الباحثين- يطرح استفهامًا حول هذه المشروعية الاستثنائية؛ فماذا حين لا يجيد الخطيب اختيار موضوعه أو عرض أفكاره أو تناسيَ أدلجته، ولم الإنصاتُ التام ولبعض المصلين حضور ذهنيٌ يفوق ما لدى الخطيب وآراءٌ قد تتضاد مع رؤاه؟
** لعل هذه التوطئة تشير إلى فاعلية دور الخطيب المفترض عدمُ مقاطعته أو اعتراضه أو الانشغال عنه، وهو ما لا يتحقق -مع الأسف- في بعض خطبائنا الذين قد ينقصهم التكوين المعرفيُّ، والمقدرة البلاغية واللغوية والأسلوبية، والوعيُ بالاختلاف المأذون به، وعدم الإفراط في المنع والتلويح بالردع، والنأي عن مناطق التجاذب القابلة للقولِ وضدِّه، كما تجاوز ترديد المكرر.
** ويبقى السؤال: لم لا يكون للجامع الواحد خطباءُ لا خطيبٌ واحدٌ بحيث لا يملُّ المصلي ولا تأسن الخطبة؛ فعظمة يوم الجمعة تستحق أن نحتفي بأهم ما فيه من موعظةٍ وصلاةٍ ودعاء.
(2)
** يعاني المنبر الإعلاميُّ الرسميُّ اليوم أكثر من سواه حتى ليكاد يختفي وسط تزاحم المنابر الفردية والجمعية، ولا يتجاوز دوره بث الخبر تاركًا التعليق والتفسير والمحاكمة والحكم للوسائط الرقمية المتعددة والمتجددة، وهو ما يجعل كثيرين غير مقتنعين ببقائه كما كان، وغير قادرين على التنبؤ بما يمكن أن يكون.
** الناسُ غيرُ الناس، ومن كان في جيلنا ومن تلاه ومن سبقه ممن رافقهم المذياع وآنسهم التلفاز وتسودت أيديهم بأحبار الجرائد لم يعودوا أكثريةً قادرةً على تحديد الاتجاه الذي سيسلكه أو يؤول إليه الوسيط التقليدي؛ فهل ثمَّ أفقٌ يحلق أم نفقٌ يغلِق؟
(3)
**هل المنبر التعليميُّ أحسنُ حالا؟ ربما بإجماع: لا؛ فالزمن غيرُ الزمن، ومن جثوا على ركبهم يومًا أمام شيوخهم، ومن سلكوا طريقًا غير طريق معلميهم هيبةً أو حياءً انقرضوا، ومن كانوا يأتون بطلبتهم فجرًا وعصرًا لإثرائهم دون مقابل اختفوا، ومن احتوتهم المكتبات العامة والمدرسية والمنزلية فقرأُوا وهم شداة أضعاف ما يقرأُه أولادهم انتهَوا أو كادُوا.
** لن نحكي عن المستوى العلمي والأخلاقي إذ يحتاج إلى دراساتٍ ميدانيةٍ كي لا يكون الحديث انطباعيًا مجردًا مع اليقين بتفوق الأجيال الجديدة وعيًا بالتقنية وإدراكًا للمحيط ونبوغًا في التحليل والتعليل.
(4)
** لعل المنابر الثلاثة: الوعظية والإعلامية والتعليمية تتبنى مشروعات وطنيةً لتغييرها وتطويرها بما يمثل استجابةً حتميةً للتحديات دون أن تتباكى على الماضي أو تتبرأ منه أو تسعى للثأر منه؛ فالدورات المجتمعية أقوى، وما رحل قد يعود وما يعود لن يبقى.
(5)
** المنبرُ منارٌ ومَثار.