ياسر صالح البهيجان
يمثّل تأليف الكتب حالة حضارية وديناميكية فكرية تكشف عن مدى تقدم الأمم وتطورها في المجالات الإنسانية والعلميّة، إلا أن ثمة نوعاً من المؤلفات قلب موازين تلك الرؤية، وجعل من التأليف شرعنة للعدوان وتأصيلاً للعنف، وحثًا لا إنسانياً على إقصاء الآخر المختلف، حتى ضاقت المكتبات العربيّة ذرعًا بالمؤلّفات التحريضيّة المناهضة لثقافة الاختلاف وما تحمله من اتزان معرفي بنّاء ونزعة تشاركيّة تؤمن بحق الإنسان في الحياة بسلام مهما كانت توجهاته الفكريّة ما دامت سلميّة وغير عدوانية.
المناكفات بين المؤلفين المنتمين لتيارات فكريّة مختلفة أمر مشروع ما دام البرهان والاحتجاج المنطقي وقود ذلك الجدل المعرفي، لكن الإشكالية الكبرى التي طرأت على الحالة التأليفية في المجتمعات العربية تمثلت في الجنوح نحو تأطير الآخر بأطر بعيدة عن منهجية الاختلاف المتحضر، لتنزلق في نتوءات الاستعداء المجتمعي، وقد تبلغ حد التخوين والتكفير والوصف بالإلحاد والزندقة لا لبينة دالة تمنح تلك الأوصاف مشروعتيها، وإنما مجرد فجور في الخصومة، وتنكيل بالآخر المغاير؛ رغبة في خلق حالة جمود فكري تتناسخ فيه الفكرة بفعل العنف والاضطهاد حتى وإن كانت خاوية في مضمونها، ومعرقلة لأي مساع نزيهة تروم التجديد الخلاق وتطمح لتجاوز أزمات الماضي والحاضر بأفق مستقبلي مضيء يؤمن بالتعددية الفكريّة.
حالة العنف التأليفي هي إحدى تشكلات العنف الجسدي، وإن كانت تبدو في ظاهرها أقل عنفًا، إلا أنها تضمر ذات الدوافع، وعادة ما تفضي إلى نتائج فوضوية قد تصل حد إزهاق الأرواح تحت ذرائع التكفير الهادر لحرمة الدم، الذي تحوّل بفعل الأذهان المأزومة من حكم شرعي له ضوابطه ومبرراته إلى حكم عدواني يتأسس على الأهواء ونوازع الانتقام والتشفي، وسعيًا لتقويض أي تعدد فكري ينمي الوعي المجتمعي.
القارئ في زمن الفوضى التأليفية تنتظره مهمة عسيرة تتمثل في القراءة الواعية والناقدة، التي لا تسلّم للمؤلف منذ الوهلة الأولى، وإنما تحاكم أسطره، وتنفذ إلى مرجعيته التأليفية لتتفحص سلامة تصوراته الذهنية عن ذاته من جهة وعن الآخر المختلف من جهة ثانية، ولا تستكين للأوصاف المضللة المبثوثة بأسلوب معلن في النص أو مضمر خلف عباراته، وتفتش بجد عن لبنة العنف والإقصاء المنزوية في أركان بنية الخطاب، والتي تحولت إلى لبنة تأسيسية لا يكاد يخلو منها مؤلَف يُعنى بدراسة فكر الآخر المغاير.
أزمة المؤلفات المضمِرة للعنف ضد الآخر تبرز في رفضها التعايش السلمي داخل الوطن الواحد والأوطان المتجاورة، وتشكل صراعًا متخفيًا خلف رداء المنهجية العلمية، وتؤسس لحالة توجس فكري من شأنه أن يتطور مع مرور الزمن ليشعل فتيل الاقتتال والتناحر، لذا فإن ذلك الصنف من المؤلفات يحمل أنساقًا هدامة ورجعية تقوّض مشاريع التقدم المعرفي، وهو تقدم يمنح المجتمعات الحديثة فاعلية وتأثيراً، ويجعل منها مجتمعات حية بامتياز.