د. خيرية السقاف
في ضوء أهم القرارات العليا التي صدرت بأوامر ملكية قبل أيام ثلاثة, جاء قرار المحاسبة الحازمة لكل من توكل إليه مهمة عليا بمقعد وزير, سواء بالإعفاء, أو المحاسبة, أو التغيير, هذا المقعد ذو المسؤولية الكبيرة, وتمثيل النموذج, ومهمة القدوة, ومناط العدل والشفافية, والأمانة والصدق, وقد كان أول من يحاسب في مؤسسة محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, وخلفائه من ثم الراشدين رضي الله عنهم هم ولاة الأمصار, والقضاة, ورجال الحسبة وأي ممن يولى أمر الأفراد ولا يفي بولايته, ولا يؤدي رعايته كما تستحق.
وقد نهج سلمان بن عبدالعزيز نحو إحياء هذه السنة العادلة, والعظيمة, وأيدها في أول أمر ملكي صريح ومعلن في هذا الشأن, وفي هذا التوقيت جاء أمره مواكبا لكل التصحيح, والتصريح, والشفافية, والحاجة لضبط ما تنامى من الخلل, أو تداعى من الفساد في مؤسسات الوطن, لاسيما وأن هيئة الفساد قد أخذت تتغلغل في الضبط, من ثم تقوم الجهات الأمنية وهيئة الرقابة والتحقيق بتتمة الإجراء, تعقبهما جهات القضاء بالحكم والتنفيذ وقد أتاحت وسائل مختلفة للجميع الوقوف على مثل هذا التوجه الجاد, وإحقاق الحقوق, وتنفيذ القرارات, ما يطمئن إلى أن الفساد بعمومه سوف تنضب يده, وتُشل قدمه, مهما شارك الشيطان, وأمارة النفس بعض المسرفين..
فالمتابع لمجمل نتائج جهد هذه الجهات, ودأبها, وشفافيتها لا يشك البتة في أن ما هو على أرض الواقع من جدية هذه الجهات, يدعمه الأمر الملكي في أعلى سُقفه من الحزم, والضبط, والعدل.
لكن عامة الناس, ما الذي رأينا من سلوكهم تجاه من خصهم بالمساءلة, أو الإعفاء؟!
لم يكن موقف أكثرهم تجاه القرار وحده وهم يتلقونه في هذا الشأن إلا القلة الواعية من اعتدلت وترفعت في الخطاب مع من شملهم الأمر, لكن الغالبية كانوا شامتين متشفين في ذات الفرد, وهو سلوك تنوء به عصبة الأخلاق, إذ كأنهم قد أخرجوا ما في جوفهم, فعُرفت أخلاقهم.
فالتشفي والشماتة سلوك لا يليق بالفعل الجميل, ولا بالنفس النبيلة, ولا بالفكر الرصين, بل إن في هذا دليل على أن هؤلاء الأغلبية قد ضاع منهم ضابط الخشية والتقوى, والذوق, مع أن فعل الخطأ مرفوض من الجميع, ويرفضه الجميع بلا استثناء, وهو موجب للأمر الملكي الصارم, هو محور الوقوف عند أهمية هذا الأمر الملكي, وأهمية تنفيذ محاسبة من في القمة كما هو مع من في السفح, وهي هذه المحورية التي تجعل في مناقشتها, والكتابة عنها, والتعبير عن تقديرها الأحق, والأصوب..
وإذا كان النهج الأخلاقي ينزه المرء من ذكر معايب الآخر, وعدم اللوك في سيرهم, أولا تكفي الحدود حين قيامها بمهمة الردع والعقاب..؟ ليقف الناس عند حد الأمر الملكي بوعي، ونبل, وتنزه عن الإساءة..؟
وإذا كان الصديق أبو بكر رضي الله عنه, والحدود تقام, والعقوبات تنفذ كان يحب لو أنه لم يجد إلا ثوبه لستر به العاصي بالسرقة, والزنى, وشرب الخمر. قمة الأخلاق, وقدوة السلوك الذي كان ينبغي أن يتحلى به الناس كل الناس حين تلم بأحد ما خطيئة تستوجب المحاسبة.
ما يطمئن في الجانب الآخر أن هناك من ابتهج بوعي وانضباط مع الجميع بحكمة القرار, وبتنفيذ الأمر, في ضوء أن لا أحد معصوما من الخطأ, وأن عباءة الكبير لن تحجبه عن المساءلة, وأن زمنا ولى يجعل فيه الكبار من مقاعدهم وسيلة لتمرير تجاوزهم، فرفع سلمان العصا, وأشرع الميزان, وأقام لهم محكمة التصحيح, فلا قريبا ينال مكانا مستحق, ولا إسرافا في غير محله, ولا ظلما لحق مستضعف, ولا مالا يُكسب في غير وجهه, فالمرء «بأصغريه قلبه, ولسانه», وكذلك بحقه باختلاف ألوان هذا الحق وموضوعه.
بوركت يا سلمان, بوركت فقد كنا نعلم فيك العدل, والوقوف مع الحق, تشهد لك المواقف, ونشهد لك بها, وكل ردهة في إمارة الرياض لنصف قرن تشهد لك, وكل سطح ومخبأ حيث كنت تقيم الحدود لا تأخذك شفقة على كبير أو صغير, ولا قريب أو بعيد حين يعلو لديك صوت الحق فتنتصر له.