د. حسن بن فهد الهويمل
مُناصحةُ المعترفِ بـ[الانبهار] من أي ظاهرة فرضُ كفايةٍ على المقتدرين. لأنه من باب الاستطاعة على تصحيح الأخطاء.
وخطل القول لا يقل عما سواه من التجاوزات. و[كل الناس خطَّاؤون].
ولأننا لا نقطع بصواب المراجعة، إذ الخطأ إنما يكون في جور الحكم، أو في إنزاله على الواقعة.
وقد يكون للمحكوم عذر، ونحن نلوم. فخطؤه بِفْعِله، أو قَوْله قد لا يستحق نوع الحكم، أو حجمه.
ومقاربة الأفكار، والأحكام يراوح زللها بين خطأ الفهم، وخطأ الإنزال.
أقول قولي هذا لأضع نفسي طائعًا، مختارًا، تحت طائلة المساءلة، والنقد. وكم أنا سعيد حين يجري الله الحق على لسان الخصم، أو أجد من يردني إليه، قبل أن أواجه عملي في ساعة لا ينفع فيها مال، ولا بنون {إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
مُعَوَّلي أنني أنشد الحق. ومعاذ الله أن أحتكر الحقيقة، أو أدّعي العصمة من الخطأ. فذلك كله من جنون العظمة.
وحَمَلةُ الهْمِّ حين تجتاحهم تلك الأخلاقيات، أو تجتالهم شياطين التعاظم، يُعَسِّرون، وينفرون.
وتأثيرُ القول، ليس بأقل من تأثير الفعل. فالفعل يَضُرُّ بالمحسوس، فيما يضر القول بالمعقول. وفي كلٍّ قَدْرهُ من الضرر، وإن فاق ضلال الأفكار ما سواه.
وفي الأثر:- [كل الناس يَغْدُو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها]. وهذا قولٌ فصل لمن لا ينطق عن الهوى. والغُدُوُّ يكون بالقَدَمِ، والقلم، واللسان، والسنان.
فمن يُقَدِّم للناس غذاء الأجسام، ثم لا يكون ملتزمًا بمتطلبات السلامة الصِّحيِّة، يكون مُوبقًا لنفسه. ويوجب على الجهة المختصة الأخذ على يده، لأنه غاش لمن حوله، [ومَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا].
وأخطر منه من يُقَدِّمُ للناس غِذَاءَ الأفْكَار، ثم لا يكون عَالمًا بما يرى، ولا ناصحًا فيما يقول، ولا ملتزمًا بالحق. وهذا أعظم الغش، وأخطره. وواجب جهة الاختصاص الأخذ على يده، لأنه في هذه الحالة -على الأقل- من السفهاء، وفي الحديث: [ولتأخذُنَّ على يَدِ السَّفيه، ولتَأطُرُنَّهُ على الحَقِّ أطْرَأ، أو ليَضْرِبَنَّ الُله قلوبَ بعضِكم ببعض].
حَمَلنِي على هذا القول مقترفات يكثر ارتكابها ممن يُعَزِّزُون تَمْجيد الآخر، بالافتراء على الأهل، والعشيرة.
وقد يُحْجِم عن مقارعة أولئك من يؤثرون السلامة، أو من يحلو لهم التثبيط على حد: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ}.
وليس مقصوَدًا بالمراجعة من يمثلون [صراع الحضارات] من أساطين العلماء وعمالقة الفكر، وإن اختلفتْ مشاربهم.
فأولئك يصدرون من خلفيات معرفية. ومواقف ثابتة. وصراعهم أزلي. ومن تجاذباتهم يكون تكامل الحضارات. إذ هي كما الرياح اللواقح.
أما المبهورون، المتسطحون، النادلون ندل الثعالب، فيمثلون الريح العقيم، لأنهم لا يجدون غضاضة في ازدراء أنفسهم، والنيل من تراثهم، والاعتراف بدهشتهم، وانبهارهم.
الحديث إذًا موجه إلى مجازفين، متعالمين، يتكاثرون في زمن الغثائية. ومؤشر جهلهم أنهم لا يفرقون بين [الحضارة]، و[المدنية]، ولا يعرفون كيف تنشأ الحضارات، ولا كيف تتوارث، ولا يدرون أنها إنسانية تكاملية، توارثية. وأنها كما المواليد، لها بدايات ساذجة ضعيفة، ثم تأخذ بالنمو البطيء، حتى تستوي على سوقها.
والمنبهرون بحضارة الغرب، وبـ [الأمريكي] منها على حد تعبير البعض منهم، يجهلون ما هو معروف من تاريخ الحضارات بالضرورة.
تَقَدُّمُ أمريكا مدنيٌ، وليس حضاريًا. ثم إنها مدنيةٌ ملفقةٌ اشترك في صنعها أجناسٌ شتى من البشر المهاجرين إلى [أمريكا] حين استقروا فيها. وحتى لو ولدوا فيها، وحملوا جنسيتها، فإن أعراقهم تحتفظ بحقها في صنع تلك المدنية.
المجازفون يجهلون أن [أوروبا] لها حضارة تنافس [أمريكا]. وأن في [الصين] حضارة تخيف [أمريكا]. وأن [اليابان] ربما تكون الدولة الوحيدة التي تستطيع أن تقول: [لا] لـ[أمريكا]. وسائر دول شرق آسيا تنافس [أمريكا] بل تكاد تسبقها في أمور كثيرة.
[أمريكا] هي الأقوى عسكريًا، واقتصاديًا، وهي الأقدر على استغلال الكفاءات البشرية، لأنها تُقَدِّس المادة، ولا تقيم وزنًا لما سواها من سائر القيم.
والعقلاء من الغربيين الأمريكيين يُحَذِّرون قومَهم من عُبُودِيَّة المادة، والبراعة في صنعها، ويشفقون من زمن الانحدار، وإن ظلت أمريكا تملك شِرْعة الغاب، وغطرسة القوة.
[المدنية الأمريكية] منجز إنساني. اشترك في صُنْعها نوابغ العالم الثالث. ومن رابه ما أقول فليعمق الرؤية، وليتعرَّف على صناع تلك المدنية ليجد [الهندي]، و[الباكستاني]، و[الصيني]، و[العربي].
فأين المنبهرون من [زويل]، و[البرادعي]، و[مجدي يعقوب]، و[الباز]. ومهندس ناطحات السحاب.
المتعالمون، والمتعلمنون، والمستغربون يجهلون، أو يتجاهلون آلاف العلماء المهرة الذين غُمِطوا حقهم. ويجهلون، أو يتجاهلون أن حضارة [الصين] صنعها الصينيون وحدهم. ومدنية [اليابان] صنعها اليابانيون وحدهم، و[النمور الآسيويون] صنعوا أنفسهم.
فيما تقوم [المدنية الأمريكية] على مختلف الأجناس البشرية. شهرة أمريكا بترساناتها المرهبة وبغزوها، وتدخلاتها، وفرض إرادتها.
[أمريكا] ليست أمة واحدة، لأنها خليطٌ من أجناس شتَّى، وديانات شتَّى صهرتهم المصالح، ووحدت بينهم الأطماع. ولو انفض سامر الأجناس، لما بقي إلا [الهنود الحمر]. الذين زُوِّرَ تاريخهم، وشوهت سمعتُهم.
ومن نظر إليها بغير هذه الرؤية كَذَبَ على نفسه، وعَرَّى جهله، وأدام انبهاره. ومن قال: إنها [عرجاء]، أو [شيطانية] فهو حر في رأيه، نخالفه، ولا نصادر حقه. وليس شرطًا أن يكون القائل [متأسلمًا] لأن ذلك من الإسقاط الساذج. لقد قالها غير المسلمين. قالها [الكوريون]، و[الفيتناميون]، وسيقولها [العرب] حين لا يكون فيهم، ولا منهم منبهر.
ونفع هذه المدنية المؤكد، والمُقَدَّر قَدْرُه، وعلاقاتنا السياسية التاريخية معها، لا ينفي عنها المثالب، والسِّمات.
والعقلاء يعرفون لهذا المنجز الإنساني قيمته. ولا يترددون في الاستفادة منه، وإفادته، ومحاولة الحفاظ عليه، وتعزيز العلاقات العامة معه.
المدنية الحديثة منجز إنساني، وليست منجزًا أمريكيًا. إذ لا تنفرد أمريكا بشيء من المنجز المدني.
وكيف يتأتى غمط الذات، وأبناء العروبة، والإسلام المبتعثون إلى جامعات الغرب، اكتسبوا المعارف، والمهارات، وعادوا إلى بلادهم، دون انبهار، أو تنكر لقيمهم. وبقي من بقي منهم في [أمريكا] يُسْهمون في تطوير المشترك الإنساني.
وهل أحد يجهل آلاف البراءات العلمية للمخترعات التي ظفر بها عرب مسلمون، ونساء، ورجال سعوديون؟
وأبناء العروبة الذين يجوبون أروقة الجامعات العالمية، ويشاركون في المختبرات، والمعامل، ومراكز البحوث بِصَمْت، وتعتيم، لم يزيلوا انبهار المندهشين، الذين ليسوا في العير، ولا في النفير. ومئات العلماء الذين جُنِّسوا، أو صفيت حياتهم شاهد أهل.
أليس في بلادي أطباء، ومهندسون، وعلماء، ومراكز بحوث، وهيئات في مختلف التخصصات العلمية البحتة. ثم أليس في شبابنا من برعوا في تخصصاتهم، ولفتوا أنظار العالم. وأثبتوا أن فينا من يتلقّى راية المعرفة بثقة، واقتدار.
- فأين المنبهرون من أولئك؟
نحن مع الحضارة، والمدنية الغربية، اعترافًا، ودعمًا، واستفادة. لأننا بحاجة إليها، ولكنها معية انتفاع، وليست معية انصياع، ولا معية خنوع، ومذلة، وانبطاح، وانبهار.
وكيف ننبهر، وفي أبنائنا من هو قادر على النهوض بما ينهض به ما سواه.
دعونا من تضليل الرأي العام، ودعونا من جلد الذات، وإدمان التذيل، والتقزم. انظروا إلى جامعاتنا، ومن فيها من الكفاءات الوطنية، رجالاً، ونساءً، ممن يحملون أهم التخصصات، وأدقها.
أزيلوا غشاوة العيون، ولا تكونوا مصدر تلويث للأفكار، ولا إحباط للعزمات.
وتَغْليبُ الغربنة، أو العلمنة، أو ما سواهما من سائر [التقليعات] لا يكون بالتخذيل، والافتراء، واحتقار الذات، وتضخيم الآخر.
[أمريكا] دولة صديقة، وحليفة. وليس من مقتضيات احترام العهود، والمواثيق الخضوع، والخنوع، ومواء القطط حول الموائد.