د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الجشع درجة متقدمة من الطمع يبدأ فيها الفرد بتكديس أموال أو أشياء ثمينة لا يحتاجها ولا يمكن أن يحتاجها أو يستهلكها يوماً من حياته مع علمه بحرمان الآخرين منها. والجشع الذي هو طمع مرضي، يختلف عن السعي لطلب الرزق المشروع وتحسين المستوى المعاشي، ويتجاوز ذلك إلى استخدام كافة الأساليب المشروعة وغير المشروعة لجمع المال ولو تطلب ذلك الإضرار بالناس أو حرمانهم من أرزاقهم. والجشع سلوك إنساني كأي سلوك آخر له أسس نفسية تقبع في نفسية صاحبه وقد تتخذ شكلاً مرضياً لا يدرك صاحبه أنه مصاب به. ويتطور هذا المرض للتطرف في لاستحواذ وبأي شكل وباستخدام القوة القاتلة أو الجريمة البشعة، وقد شبه عالم النفس الألماني الشهير «إيريش فروم الجشع «بالحفرة التي لا قاع لها، يحاول صاحبها ملئها ليشعر بالرضى والإشباع فلا تمتلئ فيستحوذ على عقله ووجدانه الاستمرار بالردم مع استحالة الإحساس بالإشباع».
حاربت جميع الديانات الجشع، فالله تعالى يقول في كتابه الكريم: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الرهبان والأحبار ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ).. الآية. وترى الكاثوليكية أن الجشع ذنب لا يغتفر بحق الرب. ويقال إن «سيدراتا قيوماتا» الذي أسس البوذية كان رجلاً غنياً محتكراً باذخاً جشعاً ويعيش حياة أساسها الاستحواذ وهدفها الملذات لكنه مع ذلك لم يحس بالسعادة الحقيقية أو الاكتفاء قط لأن حياته سيطر عليها الهوس بالبحث عن المزيد حتى اهتدى إلى أن السعادة الحقيقية هي في السعادة الداخلية المرتبطة بالقناعة والتواضع والإحسان للآخرين.
وبعضهم يرى أن الطمع دافع لمزيد من العمل والإنتاج وهذا هو الأساس الذي قامت عليه الرأسمالية وتطورت. فالرأسمالية خرجت من رحم المذهب البروتستانتي حيث حضّت أتباعها على جمع الثروات وإنمائها. وهذا هو رأي الفيلسوف وعالم الاجتماع «ماكس ويبر» الذي قارن بين الإسلام والبروتستانتية في موقفهما من تكوين الثروات. فحسب تصوره، كلتا الديانتين حضتا على طلب الرزق وتنمية الثروة، غير أن البروتستانتية ترى أن من يجمع المال مستأمن عليه وعلى إنمائه فقط، فالمال في نهاية المطاف للرب، ولا يجوز له جمعه بشكل غير مشروع أو تبذيره على ملذاته. و»لبل قيتس»، مالك شركة مايكروسوفت، قول مأثور بأن مايكروسوفت شركة لتشجيع التميز والتطور، وليست شركة لتكديس الأموال. ولعل الوعي والعلم هو العامل المحدد لنظرة الفرد للمال، فلو قارنا سلوك بعض الأثرياء العصاميين الاجتماعي وبذلهم للإصلاح وأعمال الخير، والسلوك الباذخ المبذر الذي يطبعه التفاخر فقط، للجهلة الذين جمعوا أموالهم بطرق سهلة كبعض مغني الراب أو الرياضيين لا تضح لنا الفرق.
وقد لفتت ظاهرة الجشع نظر كثير من علماء النفس والمحللين النفسيين، فهناك شبه إجماع على أنها سلوك مرضي غير سوي. وأول جانب نفسي مرضي مرتبط بالجشع هو ظاهرة «الولع بالتكديس» Hoarding الذي نهى عنه الإسلام، وهو الولع المرضي بتكديس الأموال والأشياء مع العلم أن ليس ولن يكون هناك حاجة للفرد لها. أما الظاهرة النفسية الثانية فهي السلوك غير المكترث بالمجتمع Antisocial Personality Disorder، وهو الانفصام الوجداني عن المجتمع مما يسبب عدم الاكتراث بما يحل به. أما العامل الثالث الأخطر هو النرجسية والإحساس بالعظمة والإعجاب بالنفس Narcissistic Personality Disorder، وهنا لا يرى الفرد أي حرج في تأثير سلوكه الفردي على الناس من حوله من جراء تصرفه، بل يكسبه ذلك مزيداً من الإعجاب بنفسه وربما شعر صاحبه بسعادة أكبر كلما أحس أن الناس يفتقرون لما يملك.
وهناك حالات كثيرة دمر فيها الجشعون أنفسهم بطرق مأساوية شتى، حيث يتحول الإحساس الداخلي المستمر بعدم الاشباع إلى الإقبال على المخدرات أو الهوس الجنسي أو الانتحار. ويضرب المثل أحياناً برجال مثل «روبرت ماكسويل» و»بيرني مادوف»، الأول سرق صناديق تقاعد بريطانيا في الثمانينيات مستغلاً سلطته السياسية، والثاني سرق ملايين المستثمرين في صندوق استثماري كبير مستغلاً ثقة الناس به. والاثنان لم يكترثا بما حل بالناس جراء سلوكهم الإجرامي. وقد ذهب بعضهم إلى أن هاتين السرقتين لهما جانب إيديولوجي وليس نفسيا فقط، فالاثنان يهود صهاينة وقد هربا الأموال المسروقة لإسرائيل.
ومن عظمة الإسلام أنه دين وسطي، أقر بأن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وأمر الناس أن يعملوا ويرتزقوا وأن يسعوا في مناكبها، لكنه في الوقت ذاته توعد من يكدسون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله أن تكوى بها وجوههم وجباههم يوم القيامة، لأن المال يجب أولاً أن يكون مشروعا، عملاً أو بيعاً بالتراضي وليس اختلاساً أو ربا، وأن ينفق المال في سبل الخير وفي سبيل الله.