د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
مع تزايد إجراءات الضبط الاجتماعي لبعض المظاهر الشبابية التي تطبع جيل الشباب ولم يعتد مشاهدتها جيل الآباء تكوَّن شيئاً فشيئاً مجتمع موازٍ للمجتمع المحلي التقليدي تمثّل في نموّ ظاهرة لجوء الشبان إلى قضاء معظم وقت فراغهم ساعات من الليل في استراحات بأطراف المدن أو في مجموعات شللية في أماكن أخرى بشكل يكاد يكون يومياً، وبحيث لا يبقى إلا النزر اليسير من الوقت لحياة عائلية مشتركة بينهم وبين الأهل أو لحياة اجتماعية يشاركون فيها مجتمعهم في اهتماماته العامة. وقد كتبتُ مقالاً (الجزيرة في 30 رجب 1435هـ) عبَّرتُ فيه عن أملى بأن تقوم المدرسة بدور العش الاجتماعي الذي يحتضن الشباب - لا سيما في مرحلة المراهقة الحساسة والصعبة - ليعزز فيه روح المشاركة والمحبة الاجتماعية عن طريق النشاط اللاصفي المتعدّد المجالات والهوايات، لكنّ ذلك كان أملاً في غير محله، لأن البيئة المدرسية صورة مصغرة من البيئة الاجتماعية، ليست تحفيزية ولا تساعد على نموّ الشخصية الإيجابية، ففي كليهما على الشاب أن يسمع ويفعل ما يفهمه الكبار، (وإن كان لكل قاعدة استثناء). ومن هنا تنشأ الهوة التي تعبِّر عن اختلاف المفاهيم بين الأجيال الشابة وجيل الآباء، والتي تتسع بسبب الطابع الانسحابي لشخصية الشاب السلبية، فهو لا يملك شيئاً من الأدوات التي يواجه بها جيل آبائه؛ إذ يعتمد في معيشته عليهم، بل هم يريحونه من أي عناء صغير أو كبير في شؤون المنزل والعائلة - مثلاً- ربما بسبب اعتمادهم على العمالة المنزلية، وهم يملكون الهيمنة الثقافية القوية من خلال التربية والأعراف العائلية والاجتماعية وغيرها. لكنّ الشباب ليسوا بمعزل عن ما يحدث في العالم الخارجي. يدركون ذلك مما يرونه حولهم من المنتجات الاستهلاكية المستوردة من الخارج، ومما يرونه من الحياة النشطة في بلدان الشرق والغرب التي يزورونها، ومما يسمعونه من مختلف المصادر الإعلامية المسموعة والمرئية والمقروءة، وأيضاً من أحاديث متبادلة مع أقرانهم وزملائهم. وإذا كان مجتمعهم المحلي لا يتغير في عاداته وثقافته ومفاهيمه التي اكتسبها عبر السنين، ويستعصي على تفهّم ظروف الزمان وأحواله المستجدة، فإن جيل الشباب استيقظ وعيه على هذه الظروف المستجدة وفهمها، فمن أفراده فئة قليلة كان رد فعلها تصادمياً ومقاوماً لهذه المستجدات، ومنهم - وهذا هو الغالب المتوافق مع طبيعة الشباب - من تصالح معها ووجد في نفسه قبولاً لأكرها، ويعلم أن جيل آبائه لا يفهمها ولا يتقبلها وقد يحاربونها من بوابة سدّ الذريعة الواسعة، ولكنه لما يربطه بجيل آبائه من عاطفة ولاعتماده معاشياً عليهم، يتجنّب مصادمة ذلك الجيل ولا يخامره شعور بالكراهية أو الحقد نحوه، فيتمثّل ردّ فعله في الانسحاب من البيئة الاجتماعية ذات المفاهيم التقليدية ليكوّن لنفسه مجتمعاً موازياً يعيش فيه مع أقران متفاهمين. ولكن لماذا ننزعج من هذا الموقف (الانسحابي) والمجتمع الموازي، إذا كان ذلك يجسّد صورة من التعايش والسلم الاجتماعي؟ السبب في ذلك مزدوج؛ فمن ناحية فيه حرمان للمجتمع من مشاركة الشباب - المتعلم المتحمس القوي - في الأنشطة الاجتماعية الأسرية والعامة، وحرمان الشباب أنفسهم من اكتساب الخبرة العملية من الكبار والاعتماد على النفس في تحمّل المسؤوليات وحب العمل والإنتاج ومشاركة الآخرين. أمّا السبب الآخر فإن هذا الموقف الانسحابي يمثل نوعاً من الانفصال بين الأجيال ثقافياً ونفسياً ويضعف روح الانتماء للمجتمع الذي تربَّى في أحضانه، وينعكس ذلك على علاقة الشاب بمجتمعه عندما يكبر ويستوعب حاجته لتلبية متطلّبات العيش والحياة المستقرة. وإذا كان في شبابه المبكر لا يبالي بالتكيف مع مجتمعه الأمّ، فإنه في هذه المرحلة من النضج سيحاول أن يعايش بين مفاهيمه الشبابية ومفاهيم مجتمعه لكي يستطيع العيش في بيئته. وقد يبقى عند البعض شيء من الانفصال الثقافي والنفسي وضعف الانتماء للمجتمع التقليدي يظهر تأثيره في صعوبة الاندماج الاجتماعي وعمق الاهتمام بتثبيت المصلحة الشخصية.
في هذا السياق يمكن فهم بعض برامج التحوّل الوطني 2020 على أنها تمثّل محاولة لردم الهوة التي تفصل بين الأجيال على مسارين متوازيين:
الأول: ما نلاحظه من بوادر صحوة تعليمية تتجه لتصحيح مسار التعليم علماً وعملاً، ونأمل أن يرافق ذلك تفعيل لدور المدرسة في حفز طلابها على حب المجتمع وخدمته من خلال التربية الوطنية لتكون ميدانية أكثر منها ورقيّة، ومن خلال المشاركة في الأنشطة التطوعية والمناسبات الاجتماعية، وإيجاد الجوّ الملائم للطلاب لإبراز مهاراتهم وممارسة هواياتهم. والمسار الثاني: ما بدأته هيئة الترفيه من تشجيع نأمل أن يستمر لأنشطة فنية وثقافية واجتماعية منظمة ومنضبطة تجذب الشباب ولا تنفّر المجتمع التقليدي وتراعى أن لا تتعدَّى الثوابت الشرعية أو تخدش أخلاقيات المجتمع. وليس المقصود بردم الهوّة أن تزول، فهي موجودة في كل مجتمع، ولكن المقصود هو بناء جسور تربط بينها بما يجعل التواصل والتفاهم سلساً وطبيعياً وبنّاءً.