م. خالد إبراهيم الحجي
إنَّ الثقافة مصطلحٌ حديث ومعاصر وواسع جداً يحمل معاني عديدة وكبيرة لم يوجد في عصر النبوة أو الخلافة الراشدة (صدر الإسلام) إلى أن ظهر لأول مرة في أوروبا في القرن الثامن عشر، وكان يشير في أول ظهوره إلى عملية الإصلاح الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والمجتمعات. وثقافة المجتمع تمثلها طريقة حياة الأسر، والعادات والتقاليد والقيم والمبادئ التي نكتسبها، سواءً بإرادتنا أو ننساق وراءها رغماً عنَّا في المواقف الاجتماعية المختلفة في الحارات الصغيرة، والهجر والقرى المتعددة، وفي المدن المختلفة. وباختصار فإن ثقافة المجتمع تمثل الوطن الذي نعيش فيه. لذلك يمكن اعتبار ثقافة المجتمع بأنها محصلة اتجاهات الجماعات الفكرية المتنوعة والفصائل الاجتماعية المتعددة والطوائف الدينية المختلفة. وتنقسم المجتمعات من حيث الثقافة إلى قسمين الأول: شريحة العوام: أصحاب الثقافة الشعبية التي لديها قدرٌ ضئيلٌ من الفهم والاستيعاب والإدراك للأفكار النظرية التي تتميز بسهولة الفهم وبساطتها التعبيرية، وتناسب عقلياتهم المحدودة، ولا تهتم بالفنون المختلفة أو العلوم الصعبة المركبة، مثل: المجتمعات البدائية والقبلية والاستهلاكية في دول العصر الحديث التي تقضي معظم وقتها وتصب جهودها على السعي من أجل لقمة العيش. والقسم الثاني: شريحة المثقفين والمفكرين: هم النخبة أصحاب الثقافة الراقية التي تمتلك ذهنية عالية قادرة على النقد والتحليل والاستنباط المفيد، وإيجاد الحلول العملية لقضايا المجتمع ومشكلاته، وتسهم بشكل فعال في بناء المجتمع وتقدمه وتطوره، مثل: شريحة الأكاديميين في الحرم الجامعي.. والمجتمع الذي يعتقد أن ثقافته من المسلمات غير القابلة للنقد، ويعكف على تمجيدها والتفاخر بها على أنها أحسن الثقافات، ويرى أن تغييرها لمناسبة العصر الحديث أو تطويرها لمواكبة التقدم والتطور والرقي ستعرضه للضياع، هذا المجتمع نجده يعارض دائماً أصحاب فكر التغيير والتجديد ويقاوم أصحاب التقدم والتطور، ويصفهم بالمسميات المسيئة والألقاب الجارحة التي قد تصل إلى حد الاتهام بالتغريب أو الفجور أو الزندقة.. وقد اتضح من الواقع العملي أن البقاء على ثقافة المجتمع التقليدية الجامدة قتل للإبداع، ومن الخطأ الاعتقاد بأن البقاء عليها والتمسك بها هو طريق الإبداع. والشواهد والأدلة والبراهين من الواقع المعاصر كثيرة، وتؤكد أن المجتمعات التي ما زالت متمسكة بالثقافات العبية القديمة التي عفا عليها الزمن، ولم تهتم بالعلوم التطبيقية التكنولوجية الحديثة لم تقدم شيئاً يذكر يستفيد منه العالم في مجال الابتكارات والاختراعات الحديثة، أساس التقدم والتحضر، وما زالت مجتمعات قابعة في مؤخرة الشعوب، وعالة على الدول المتقدمة والمتحضرة. وعلى العكس من ذلك نجد أن المجتمعات المتقدمة والمتحضرة التي أفادت العالم قد تخلت عن الثقافات التقليدية الشعبية القديمة؛ لأنها ترتبط بالعادات والتقاليد القديمة وتعتبر جامدة ولا تقدم شيئاً جديداً أو نافعاً أو مفيداً للمجتمع في مجالات الإبداع والاختراعات الحديثة، وأعطت أولوية كبيرة واهتماماً شديداً للعلوم التطبيقية والتكنولوجية الحديثة التي تعتبر أساس الابتكارات والاختراعات الحديثة.. وإلى الآن ما زال الجدل محتدماً بين علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) بشأن العوامل التي تحدد ثقافة المجتمع؛ فالفريق الأول أنصار نظرية البصمة الوراثية "DNA": يرى أصحاب هذه النظرية أن الإنسان يولد ومعه الجينات والعوامل الوراثية التي تحمل أدق التفاصيل عن شخصيته من ساعة ولادته - بما في ذلك ثقافته الخاصة والاجتماعية - إلى موته، ومن عيوب هذه النظرية أنها تحمل دلالات التفوق العرقي ويتحمس لها أصحاب العرق الآري الذين يعتقدون بسيادتهم على سائر الأعراق الأخرى. والفريق الثاني: أنصار نظرية النشأة والتربية الاجتماعية: يرون أن شخصية الإنسان وثقافته تحددها طريقة رعايته في المجتمع منذ ولادته في الحياة، والطريقة التي يتربى عليها وتأثير البيئة التي يعيش فيها إلى آخر حياته، لذلك يرون أن التقصير والعجز في مجالات الفنون المختلفة والعلوم التطبيقية والتكنولوجية المتطورة يرجع إلى ثقافة المجتمع السائدة. والواقع المعاصر يؤكد ضعف النظرية الأولى وقوة النظرية الثانية وصحتها، لأنه إذا توفر للإنسان متطلباته الأساسية في الحياة من المشرب والمأكل والمسكن ولديه الوقت اللازم والمال الكافي أصبح الطريق سهلاً وميسراً للفرد والمجتمع للسعي نحو تطوير ثقافته.. وأن يبلغ المجتمع مستوى التنقية والتنقيح والتهذيب لثقافته السائدة شرط سابق لإعادة إنتاج ثقافة الإبداع.
الخلاصة:
الثقافة لا تصنع الشعوب، الشعوب تصنع الثقافة.