عبده الأسمري
عندما كان الشعراء العرب يتجهزون لالتقاء البسطاء في المقاهي الشعبية العتيقة وكتابة الشعر كوسيلة تجمل الدفاع وحيلة تفترض الهجوم في بلدانهم التي تعرضت للاحتلال ولسوءات الفوضى السياسية، كانت روائح البارود تفوح من تلك النصوص، وظل قهر الوطنية أمام العدو يتجلى في مشاهد الثقافة في كل أنواعها، لذا خرج أدب محمود درويش ونزار قباني وغيرهما من شعراء الشام وإفريقيا وكل شعراء المهجر الذين غادروا أوطانهم وهم يحملون صور الأطفال والنساء والمكلومين في ذاكرتهم وقوداً لكل الأعمال التي انطلقت صادقة، فكانت نتاجاً أدبياً مذهلاً.. تجرد الأدب الذي طغى في حقبة السبعينات والثمانينات والتسعينيات من أدوات عدة إضافية إيحائية أو خيالية لخروجه معتمداً على تجارب ملهمة وحقائق صادمة وواقعية مؤلمة أنتج أدباً يافعاً منذ ولادته وكرس مفاهيم جميلة للوطنية ومعاني أسمى للقيم وأيضاً انعكست هذه الأزمات التي تمخض عنها في ولادة نصوص شعرية مبهرة في الجودة كانت تلامس العاطفة والوجدان وتعانق خيالات الشعراء وتستكين في مخيلتهم ليبدعوا في نثرها نصوصاً باتت مرجعاً للواقعية المنبعثة من بوابة التجرد، بل وتمرد الشعر على قيود الحرية من سجن واعتقال وحظر تجول ومضايقات ليعانق الشعب بكلماته التي كانت سلاحاً للمعتقلين وردعاً للمحتلين ودفاعاً أمام الأعداء. لم تكن الوطنية وحدها أداة لنبض الشعر في تلك الأوقات، ولكن كانت ثمة أدوات أخرى جردت النصوص من الخيالات المعتدة على الإيحاء، فقد خرجت نصوص من رحم المعاناة وكانت الأصدق قياساً بالتفاصيل الإبداعية في مفردات قصائد تحولت في أوقات إلى حكم وأمثلة قيدتها شعوب وأجيال لا تزال تحكي بها حتى الآن.
الطبيعة في الشعر كانت أداة لنصوص صادقة عميقة وترابطت الطبيعة مع القرية والأشجار والحقول والمطر.. فكانت جلية في نصوص جميلة بينما ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعاطفة وبالتجربة وبالإلهام الشعري المحسوس، وظهرت وكأنها نص إبداعي وصل إلى الانفراد كثيراً في نصوص تجردت من استلهام مواقع أبعد لتعتمد على الواقع خارج إطارات الإلهام.
تمرد بعض الشعراء على قيود الرقابة في مجتمعات كانت تفرض القيود كنوع من فرضيات السلطة الكاملة في وقت كان الأدب يتجاوز حدود الخطابات، وكان لغة دفاع شخصية عن حقوق متعددة. فالنصوص الشعرية كانت خطاباً أدبياً مختصراً للمعاناة وعنواناً أقرب لمواجهة الألم. تمرد الشعر على الحالة المزاجية فأمطر العديد من الشعراء بنصوص عذبة في العاطفة والجزل الإبداعي والتوصيف الحياتي وآلام التجارب وسطوة الخبرات وسط قوة الحياة ومعاناتها من الحروب والاضطهاد وسوء الأحوال الاقتصادية والألم، وهذا يعكس قدرة الشعار من فئة الكبار على خلق مساحات الجمال حتى وسط الأرض المحروقة.
عندما كان محمود درويش يصف الحدائق والأرض والمطر والورد وخبز والدته ووجوهاً تتعانق مع الفلاح كان حينها يرسم ملحمة من الكفاح على طريقته رغماً عن الظروف، وكانت تلك النصوص التي تلقى على عتبات الأمسيات دافعاً نحو المقاومة لأنها تمردت على الحالة الواقعية وتجردت من إضافات إيحائية بل وكانت تتمرد على الواقع المؤلم لواقع أجمل منه.
عندما يحل الشعر ليكون حالة من التجرد يظهر بعفوية أكثر فيتجلى الإبداع بدراً متكاملاً فتظهر الواقعية نصاً مجيداً في الذاكرة، وقد يكون خطاباً إنسانياً أو منهجاً واقعياً لوصف حالة كبرى مختصرة في نص واحد. وعندما يتمرد الشاعر على كل ظروف الزمان والمكان كما حدث في ذاكرة العديد من الشعراء فإن النص يظهر بحالة سامقة من الحضور والطغيان على كل شيء يظهر في اتجاه أفقي متجاهلاً كل الاتجاهات الأخرى ليشكل رؤية لاستقصاء حالة قادمة ووصف حالة حاضرة، وتفصيلاً لماضٍ خرج النص من أعماقه. وجود النص الشعري بين ميزان من التجرد والتمرد يشكل انعتاقاً من كل الظروف وانشقاقاً سوياً عن حالة المعاناة ليخرج تلقائياً عفوياً تليداً وليداً بكل تفاصيل الواقعية والصدق واستلهام حقوق البسطاء واستقصاء واقع المتألمين ليشكل في جملته «براعة إبداعية» خالية من الذاتية موجهاً كلماته نحو موضوعية فاخرة توصل لهدف سامٍ من النص ومستقبل ستقرئ كل ملامح الأمل ويقرأ كل مطامح القادم ويوظف جميع مناحي الثقافة في خدمة الموصوفين بالنص المتوشحين بحروفه كأبطال غير معلنين ولكنهم القصة الحقيقية لولادته والسر الوحيد الذي كان وراء هذا الإنتاج الأدبي.