د. سلطان سعد القحطاني
من شعراء العصر الجاهلي المتأخر قبل الإسلام ،وتذكر المصادر التاريخية أنه توفي، في السنة الثامنة عشرة قبل البعثة النبوية ، الموافق للسنة الخامسة بعد الستمائة للميلاد، والنابغة تعني في اللغة» الإجادة والظهور والبراعة، وتعني- أيضاً- في الأصل المادي، نبوغ الماء من باطن الأرض، ونبغ ونبع بمعنى واحد، وهي تعني، الظهور والبروز، وكان يطلق على الشعراء الذين برزت مواهبهم الشعرية في سن متأخرة. وهذا لايعني أن أولئك الشعراء لم تكن مواهبُهم مبكرة، بل كانوا يمتلكون مواهب، لكنها كانت كامنة لم تجد الفرصة والمحرك الانفعالي لظهورها ، وتؤكد ذلك الدراسات النفسية العلمية، بأن الموهبة تولد مع الإنسان، وتنميها الخبرات والتجارب الحياتية، وهذا لايعني أن ظهور المبدع على الساحة الأدبية الفنية في وقت متأخر أنه لم يقل الشعر قبلها، بل مارس الشعر لكن على نطاق ضيق في قنوات غير فاعلة، كمحيط الأسرة والأصدقاء ودائرة المجتمع الصغير، لكنها تعني انطلاقة الشاعر في ظروف مختلفة عما ذكرنا، وقد اكتملت لديه الموهبة معززة بالتجربة، أي الموهبة الفطرية والتجربة المكتسبة، وهي اكتمال الأدوات والخبرات الشعرية،وليس بكاف اكتمال ما ذكرنا دون محيط أدبي وقنوات يصدر هذا الفن من خلالها، ومن أكبر تلك القنوات في ذلك الوقت، مجالس الملوك والأمراء ،عبر ظرف تاريخي مؤثر يعطي الفرصة لبروز المبدع من خلال الوسيلة الإعلامية، ولكل زمان وسيلته، كالأسواق الثقافية والتجمعات التجارية في تلك الأسواق المعروفة،كسوق عكاظ وغيره،والثانية: تنتشر من خلال مدح الملوك والأمراء والأثرياء وأصحاب الوجاهة في فض المنازعات القبلية بين الطرفين، ممن كانت لهم أدوار بارزة في التاريخ. ومن حيث التعريف اللغوي: يقال: رجل نابغة، والتاء زائدة للمبالغة ، والنابغ المجيد في فن أو علم ما بعد سن متقدمة من العمر، كقولنا: علامة، للعالم، ورحالة لمن يرحل كثيراً.وهذا ليس نهاية القول والفصل، فهناك من خرق القاعدة ونبغ مبكراً من شعراء المعلقات، كطرفة بن العبد، على سبيل المثال، حيث شارك في سوق عكاظ في منتصف الثلاثين من عمره، حيث كانت تجربته ومعاناته في الحياة قد أكسبته تجربة كافية.
وهناك من العلماء والأدباء والشعراء كثير ممن ينطبق عليهم هذا التعريف، لكن مصادر الأدب والتاريخ لم تذكر لنا منهم إلا عدداً قليلاً في القرون المبكرة، قبل ظهور الإسلام ممن اشتهروا بهذا اللقب، ومنهم من أدرك الإسلام ومنهم من توفي قبل البعثة النبوية. وسنتتبع في هذا البرنامج مجموعة منهم، بإذن الله......
ولنبدأ بالنابغة الذبياني الذي عرفنا النبوغ من خلاله، حيث اكتسب هذا اللقب وعرف به بين الأدباء والشعراء وعامة الناس، مع وجود من حصل على اللقب نفسه. فمن هو؟؟؟؟
هو زياد بن معاوية الذبياني، فحل من فحول الشعراء في عصر ما قبل الإسلام، وقد ذكرنا زمن وفاته من قبل، كان سفيراً لقومه لدى الملوك والأمراء في ذلك الوقت( المناذرة والغساسنة). كثرت الأقوال في نشأة النابغة الذبياني في قومه، ولا مجال- هنا- للخوض في الاختلافات حول شخصيته، لكن المحصلة من ذلك كله، أن النابغة سيد من سادات قومه، بني ذبيان. ولِما كان للشعراء من منزلة رفيعة في الجاهلية، فقد لعب النابغة دوراً بارزاً في التوسط لقومه لدي الغساسنة ومنعهم من حربهم. ونجد في قصائده الرهبة والخوف الظاهري، وهوخوف ليس على نفسه دائماً ، بل على قبيلته بالدرجة الأولى ، وهو بعكس الخوف الباطني، ما عدا ماسمي باعتذاريات النعمان، فهو خوف باطني من بطش ذلك الملك الجبار به شخصياً عند سماع النعمان لوشايات الحاقدين عليه.
ومن مظاهر الرهبة ومعانيها في شعر النابغة، مايلي:
الخشية مما يتوقعه، والخوف من الفعل- إذا وجد، والهيبة من غضب الملوك، والحذر من الوقوع في المحاذير وقول الوشاة. هذه المظاهر الأربعة قلما يتقنها مبدعٌ في زمن النابغة، فكان ذكياً متوجساً لكل كلمة يقولها، فهو يحسب لكل كلمة رد فعلها، لذلك يدرس نفسية المتلقي فيعالجها بما يتفق وميولها. وهذا ما نجده واضحاً جلياً في اعتذارياته للنعمان بن المنذر، فلا تجد قصيدةً إلا وتجد شخصيته تحت شخصية الآخر،وهذه منتهى التقنية الدبلوماسية، دون إهانة نفسه وتذلله، وهذا مايسمى في الدراسات اللغوية الحديثة ( بنية النص الداخليةDeep Structure)، كقوله معتذراً للنعمان ومبرئاً نفسه مما نسب إليه معترفاً بقوة الملك في الوقت نفسه:
وإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلتُ أن المنتهى عنك واسع.
وقوله يخاطب الملك الحارث الغساني:
وقد خفت حتى لا تزيد مخافتي
على وِعِلٍ في ذي المُطارة عاقلُ.
وبالإضافة إلى كون النابغة شاعراً مبدعاً فهو خبير في السياسة يقيس الأمور بمقياس عصرها، فكان ينصح قومه من التعدي ع لى تحذيرات الملك الغساني، لكنهم في أحيان كثيرة لم يسمعوا لنصائحه، وهو جليس الملك وأدرى الناس بنفسيته وسياسته، فيقول:
نصحت بني عوف ، فلم يتقبلوا
وصاتي، ولم تنجح لديهم وسائلي.
والخوف والرهبة التي ذكرناها ليست على نفسه بقدر ما هي على قومه، فيمدح بني غسان على سبيل تهدئة الأمور بينهم وبين قومه بطريق غير مباشر:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم
من الجود والأحلام غيرِ عوازبِ.
ويصف هذه العلاقة الرفيعة مع ملوك الغساسنة، ويخص النعمان بن المنذر الغساني، للتقرب والإرضاء، وأنه واحد منهم، فيقول:
ولكنني كنت امرأً لي جانبٌ
من الأرض فيه مستراد ومذهبُ
ملوك واخوانٌ إذا ما أتيتهم
أحكم في أموالهم وأقرب.
ويجد الدارس لشعر النابغة، واعتذارياته بالذات نزاعاً نفسياً بين ملوك الغساسنة وملوك المناذرة، فالغساسنة يتمتعون بسياسة الاحتواء ودماثة الخلق والسمو، بصرف النظر عن قلة عطاياهم، وهذا دليل على أن النابغة ليس جشعاً كغيره بقدر ما هو سفير لقبيلته بالدرجة الأولى، والعكس صحيح لدى المناذرة، وخاصة معاصره( النعمان بن المنذر) الذي يمتلئ بلابطه بالواشة والجواسيس على الشعراء، يتضح ذلك من قصائده الاعتذارية، التي يجسد فيها خوفه ووجله من وعيد النعمان، وأنه لا ينام الليل من شدة الخوف والحذر من بطشه، فكأن فراشه قد حشي بالشوك السام، ويصف ذلك في تعبير شديد الدقة عما يعانيه، مستنبطاً معانيه من البيئة الصحراوية، مثل( الهراس) وهو بقايا أزهار العشب اليابسة السامة بعد الربيع، والعائدات تعني الحمى الشديدة، في قوله:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
وتلك التي أهتم منها وأنصبُ
فبت كأن العائدات فرشن لي
هراساً به يعلى فراشي ويقشب.
والنابغة الذبياني شاعر متعدد المواهب والاتجاهات، فهو شاعر مدحٍ، ووصفٍ، وغزلٍ، وحكمة، فمن أشعاره في المدح ما قدمنا له من مدح الملوك، والسادة من العرب، لكن في مجال الوصف أقوى،تجده يرسم لوحة فنية عندما يصف مكاناً أوشخصاً أو حادثة، كقوله يكني عن قرب الصبح ببداية زوال النجوم عندما يتغلب عليها ضوء النهار، والاستعداد التام للرحيل:
أقول والنجم قد مالت أواخره
إلى المغيب تثبت نظرةً حار؟
ثم وصفه لمحبوبته بالترخيم (نعيمة) وهو حذف آخر حرف في الكلمة، وهنا حذف حرفين، الأخير للترخيم والثالث كي لا تتحول إلى مذكر( نعيم) فقال:
أنظرة من سنا برق رأى بصري
أم وجه نعم بدا لي أم سنا نار؟.
ثم يستعمل أسلوب التأكيد فيما كان يشك فيه في قوله:
بل وجه نعمٍ بدا والليل معتكر فلاح ما بين أثواب وأستار.
وتظهر في أشعاره الحكمة والتاريخ وسعة الثقافة، في مثل قوله في معلقته، يا دار مية بالعلياء، فالسند:
فتلك تبلغني النعمان ، إن له
فضلاً على الناس في الأدنى، وفي البعد
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه
ولا أحاشي، من الأقوام، من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له:
قم في البرية ، فاحددها على الفند
وحبِّس الجنّ إني قد أذنت لهم
يبنون دمّر بالصُّفَّاح والعمد
فمن أطاعك، فانفعه بطاعته
كما أطاعك، وادلله على الرشد
ومن عصاك، فعاقبه معاقبةً
تنهى الظلوم، ولا تقعد على ضمد.
والمعلقة طويلة، لا يتسع المجال لذكرها كاملةً.ونختم هذا الحديث عن مبدع يعدّ في طليعة المبدعين، وسيدٍ مقدمٍ في قومه، مؤيدٍ في الوسط الأدبي، حيث اختير محكّماً لسوق عكاظ الذائع الصيت. ودليل سيادته، أنه عندما يعتذر للنعمان لا يذل نفسه ويخشع له، بل يحاوره بالمنطق العلمي، ولنقرأ هذين البيتين، وهي منتهى الرقي في التعامل المنطقي القاطع، فهو يقسم بالله- تعالى ـ وليس وراء القسم بالله حجة أو عذراً منطقياً بأنه لم يخنه في زوجه( المتجردة) كما وُشي به. يقول:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً
وليس وراء اللهِ للمرء مذهبُ
لإن كنت قد بلغتَ عني خيانة
لمبلغُك الواشي أغشُّ وأكذب.
ونختم هذا الحديث بأن النابغة مبدع خلّده التاريخ على مدى القرون والأجيال، وسيبقى يخلده شعره الراقي، لغةً ودلالة ومعنى.