سهام القحطاني
أبي الإسْلامُ لا أَبَ لِي سِوَاهُ ...
إِذَا هَتَفُوا بِبَكْرٍ أَو تَميمِ
دَعُّى القَوْمِ يَنْصُرُ مُدَّعِيهِ ...
فيُلْحقُهُ بذي النَّسَبَ الصَّميمِ
وما كَرَمٌ ولو شَرُفَتْ جُدُودٌ ...
ولكنَّ التَّقِىَّ هو الكَرِيمُ
«نهار بن توسعة»
لاشك أنّ اعتناق العرب للإسلام، أحدث ثورة تغيريّة هائلة في إعادة بنائه للمفاهيم التي تربى عليها العربي حقباً طويلة من الأزمنة قليلها حسن وكثيرها سيئ.
ومن تلك المفاهيم «مفهوم الهوية» و»معايير الانتماء» و»وصفية الوحدة وخصائصها».
بنيت الهوية في ظل الإسلام خارج حدود العرقية حتى يصبح «الدين» هو القاعدة التأسيسية الرئيسة لتشكيل الهوية الجديدة، ليصبح الدين واقعاً كما وصفه نهار بن توسعة بديلاً للنسب والقبيلة.
وهي قاعدة تأسيسية طهّرت الذهنية العربية من العصبية العرقية، ودفعت تلك الذهنية إلى التصالح مع الآخر والاندماج معه تحت مظلة الانتماء الديني.
وكانت عملية التطهير تلك من أجل تهيئة العرب وغير العرب في ظل معيار الدين لصناعة «مفهوم الأمة»، تهيئة بدأت بالثورة على التوصيف الاسمي المحرض على التمييز العرقي للمنتمي للهوية الجديد، فحل توصيف «مسلم» محل توصيف عربي و غير عربي، ليؤكد على رفع معايير التمييز العرقي ويدمج الجميع وفق معيار الدين.
والأمة مفهوم لا يرتبط بالعرق أو الصلاحية الزمانية والمكانية، إنما يرتبط باشتراطية ثلاثية هي؛ العقيدة والقيمة والإيجابية، والقيمة أوجزها الخطاب القرآني في «الوسطية»، تلك الوسطية التي تحمي مفهوم الأمة من قطبي التطرف والغلو، وهما قطبان يورثان في مجملهما رفض الآخر وعدائيته.
كما أن الوسطية هي منهج فكري وسلوكي وإصلاحي يسعى إلى نشأة إنسانية بصيغة عالمية، تستوعب الاختلاف وتستثمره لمصلحة حضارة الجميع، وليس توصيفاً أيديولوجياً كما فهمه رجال الدين من الأولين والمتأخرين، وهو توصيف بالتقادم حصر مفهوم الأمة في إطار أيديولوجي غلب عليه التمييز والإقصاء، وحوّل قيمة الاختلاف الاستثمارية إلى قاعدة عداء نحو الآخر، مما أخرج الوسطية من قيمتها الوصفية لقبول الآخر والتشارك معه في صناعة حضارة إنسانية، إلى جعلها وسيلة لإحياء فكرة العرقية والعصبية الأيديولوجية.
إن الاختلاف أو تعدد دلالات الوسطية هو اختلاف وتعددية مفيد لقيمة الوسطية وليس مشتتاً لها؛ لتظل قيمتها غير محددة ومفتوحة للاستثمار الحضاري وعصية على الحصرية الأيديولوجية، ولذلك ظلت الوسطية قيمة في ذاتها خارج أي تأطير لمعنى أو صفة، أفسدتها تأويلات الخطاب الديني الكلاسيكي المنفصل عن حيوية الوعي الحضاري.
أما الإيجابية فقد أوجزها الخطاب القرآني في وسيلة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وقد حصر رجال الدين الأوليون ومثلهم المتأخرون، المعروف «بالديني في صيغته المباشرة» و المنكر «باللاديني في صيغته المباشرة» وهي حصرية عطّلت «الإيجابية» المبنية عليها أساس قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهناك معروف قد لا ينتمي إلى الديني المباشر، وتجاوزه جلب للأمة التخلف، وهناك منكر أيضاٌ قد لا ينتمي إلى اللاديني المباشر، جلب للأمة التطرف والإرهاب.
كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما وسيلة لتفعيل» قيمة الإيجابية» وليستا قيمة في ذاتهما كما روّج ذلك الخطاب الديني الكلاسيكي.
هذا الخلط بين القيمة والوسيلة عطّل الدور الحضاري لقيمة الإيجابية المؤسس عليها مفهوم الأمة، وحصرها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مستواهما التخويفي والتخريبي، مما حوّلهما فيما بعد إلى مظهر للتطرف والرجعية والتخلف، وبذلك خرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمساند رئيس لتفعيل الإيجابية الحضارية لمفهوم الأمة.
لاشك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص الأمة الحضارية شريطة أن يتوفر حسن فهم لمقاصدهما، وأن لا يتعارض مع حرية الفرد الشخصية والفكرية والعقدية، وأن لا يصبحا مُولِداً للتطرف والتخريب والإرهاب، ومعادلاً «لضمير الرب» بل أن يكونا مساندين للوعي الحضاري للمجتمع وتجاوز العقيدة شرطية الوسطية والإيجابية تنفي تحقق مفهوم الأمة.
كما أن شرطية القيمة والإيجابية لهما أيضا العديد من الفوائد أهمها التمهيد لصناعة الحضارة الفاعلة، فتجاوز عقدة العرقية تسهم في الاندماج مع تشاركية الخبرة الحضارية للأمم السابقة، والتصالح الثقافي والعلمي مع العقل المعرفي للآخر، فالإسلام لم يكن يوماً ضدّ أي حضارة أو ضد الاستفادة من أفكارها العملية التي لا تتعارض مع أصول العقيدة.
لقد أسس مفهوم «هوية الأمة» للعربي وعيين؛ الوعي بالإنسانية، هذا الوعي الذي حوّل الفرد من خانة الكمية إلى خانة الكيفية، وهذا التحوّل بدوره أسهم في نشأة الوعي الآخر وهو الوعي الحضاري «قيمة الإنجاز»، وتلك القيمة هي التي أسست العقل المعرفي المنتج للمسلم، العقل الذي استطاع صناعة حضارة إنسانية عظيمة نمّت تحت مظلة هوية الأمة.