محمد جبر الحربي
«جادكَ الغيثُ إذا الغيثُ همَى يا زمانَ الوصلِ بالأندلسِ
وروى النُّعمانُ عنْ ماءِ السَّمَا كيف يَروي مالِكٌ عنْ أنَسِ
فكساهُ الحُسْنُ ثوبًا معلمَا يزدهي منْهُ بأبهى مَلبسِ»*
وقد كانت حاضرةً في إنشادنا أطفالاً مع الأنصارِ بنشوةٍ وحماسةٍ، ترحيباً بالنبيِّ العربيِّ الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وثناءً عليه، وكأننا بينهم نرفعُ الرايات بثقةٍ عالياً مع النخيل:
طلَعَ البدْرُ علينا
مِنْ ثنيَّاتِ الوداعْ
وجَبَ الشكرُ علينا
ما دعَا للهٍ دَاعْ
أيُّها المبعوثُ فينا
جئتَ بالأمْرِ المُطاعْ
طلعَ البدرُ علينا
ومِنَ النُّورِ ارتويْنا
برسولِ اللهِ قرِّي
يا رُبى يثرِبَ عيْنا
ويَثرِبُ اسم المدينة المنوَّرة قبل هجرة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم إليها، وهو اسمٌ غير مستحب، وأساسه كما في الموسوعة: « الاسم السابق للمدينة المنورة قبل الهجرة النبوية للرسول، سميت يَثْرِبَ بهذا الاسم نسبة إلى يثرب بن قاينة بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح، والجدير بالذكر هو كراهية إطلاق هذا الاسم عليها، والأحرى تسميتها باسم المدينة (دون لفظ «المنورة»)، وطيبة، وبأسمائها الأخرى التي أطلقت عليها بعد الهجرة النبوية. شاع اسم يثرب قديماً ووجد في نقوش وكتابات غير عربية، فظهر في جغرافية بطليموس اليوناني باسم يثربا (YATHRIPA)، وفي كتاب اسطفان البيزنطي باسم يثرب (YATHRIP)، وظهر اسمها في نقش على عمود حجري بمدينة حران (اتربو) (ITRIBO).
استوطنتها قبيلة عبيل بقيادة يثرب التي سميت باسمه ووجدوا فيها أرضاً خصبة وشجراً وماءً حتى جاء العماليق وسكنوها بعدهم، والعماليق من أحفاد نوح خرجوا من بابل واستوطنوا ما بين تهامة ومكة وبقوا فيها إلى زمن ملكهم السميدع، ثم جاءت جرهم فأخرجتهم من المنطقة وسكنت مكة.
اكتسبت يثرب مكانتها المقدسة بعد هجرة الرسول وصحابته وأصبحت المدينة المنورة ثاني الحرمين الشريفين. تكونت فيها أول دولة إسلامية دستورها القرآن، وأصبحت أول عاصمة إسلامية لدولة يحكمها رسول مبعوث، ومن بعده الخلفاء الراشدون، حتى وفاة الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وكان الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب قد نقل العاصمة من المدينة للكوفة لأسباب سياسية، وبعده نقلها معاوية بن أبي سفيان لدمشق، ثم نقلها العباسيون لبغداد بعد تأسيسها».
والثَّاءُ في ثَمَّ وثَمَّةَ بفتح الثاء ظرف مكانٍ بمعنى هناك: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} (64) الشعراء، و {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (115) البقرة.
وفي ثُمَّ وثُمَّتَ بضمِّ الثاء: وتأتي في معانٍ كثيرةٍ منها العطف، والترتيب والتتابع والتتالي، والتراخي، والشواهد كثيرةٌ في القرآن الكريم.
والثاءُ في التراث وهو كلُّ ما خلّفه السَّلفُ من آثار في مختلف المسائل الثقافية والحضارية تتناقلها الأجيال، فترتفع وتثمرُ في العقولِ، وتثري عجلة الحضارةِ على أيدي بعضهم، وهو ما تحرصُ عليه الأمم الحيّةُ الفاعلة، وتندثرُ وتضيعُ على أيدي آخرين، وهو أيضاً ما يخلفه الميِّت لورثتهِ: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمّاً} (19) {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (20) الفجر.
والثاء في الرِّثاءِ وهو تراثٌ شعريٌّ ثابتٌ في الأدب العربي، فهو بابُ إبداع، وتجلي أرواح، لكنه محزنٌ ومُرٌّ، بدءاً من رثاء الذَّات، في الماضي والحاضر، كما في مرثية مالك بن الريب:
فيا صاحبَيْ رحلِي دنا الموتُ فانزِلا
برابيةٍ إنِّي مقيمٌ لياليَا
أقيما عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ
ولا تُعجلاني قدْ تَبيَّن شانِيَا
وقوما إذا ما استُلَّ روحي فهيِّئا
لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ عندَ فَنائيَا
وخُطَّا بأطرافِ الأسنّة مضجَعِي
ورُدَّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيَا
ولا تحسداني باركَ اللهُ فيكُما
مِنَ الأرضِ ذاتِ العَرضِ أنْ تُوسِعا ليَا
خُذاني فجُرَّاني بثوبِي إليكُما
فقدْ كنتُ قبلَ اليومِ صَعْباً قِياديَا
إلى رثاء الأهل والأحباب وأعلام الوطن والأمة، وقد برع في ذلك معظم الشعراء، فطاقة الحزن طاقةٌ جارفةٌ، وفي هذا الباب قصائد لا تحصى تميل إلى الحكمة، والتأمل في الحياة والموت، واشتهر منها مراثي الخنساء في أخيها صخر، ومرثية جرير في زوجته، ومرثية المتنبي في أخت سيف الدولة، ومنها هذه الأبيات الشهيرة:
وَإنْ تكنْ خُلقتْ أُنثى لقد خُلِقتْ
كَرِيمَةً غَيرَ أُنثى العَقلِ وَالحَسبِ
وَإنْ تكنْ تَغلِبُ الغَلباءُ عُنصُرَهَا
فإنّ في الخَمرِ معنًى لَيسَ في العِنَبِ
فَلَيْتَ طالِعَةَ الشّمْسَينِ غَائِبَةٌ
وَلَيتَ غائِبَةَ الشّمْسَينِ لم تَغِبِ
إلى رثاء البلدان والممالك والأوطان كما في مرثية ا لرَّندي للأندلس:
لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ
فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هيَ الأمورُ كما شاهدتُها دُولٌ
مَنْ سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتْهُ أزمانُ
وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ
ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ
يُمزِّقُ الدهرُ حتماً كلَّ سابغةٍ
إذا نبَتْ مشْرفيًّاتٌ وخُرصانُ
وينتضي كلّ سيفٍ للفناءِ ولوْ
كان ابنَ ذي يزَنٍ والغمدَ غُمدانُ
أين الملوكُ ذَوو التيجانِ مِنْ يمنٍ
وأينَ منهمْ أكاليلٌ وتيجانُ؟
وأينَ ما شادَهُ شدَّادُ في إرمٍ
وأينَ ما ساسهُ في الفرسِ ساسانُ؟
وأينَ ما حازَهُ قارونُ من ذهبٍ
وأينَ عادٌ، وشدادٌ، وقحطانُ؟
أتى على الكُلِّ أمرٌ لا مَردَّ لهُ
حتى قَضَوْا فكأنَّ القومَ ما كانوا
وحتى رثاءِ المثل والأخلاق في يومنا الحاضر.