الأديان الرئيسية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) هي ثورات لهدم النظام العبودي القائم على التمييز العرقي، وبناء النظام الإقطاعي، ولكن تلك الثورات استنهضت المسحوقين من أجل رفض الاستعباد كمنهج اقتصادي اجتماعي، فالثورات لا ينجزها المتسلطون، وكان لابد من نبذ العرقية في العلاقات الاجتماعية، ولكن الثورات -في الوقت ذاته- استخدمت المشاعر القومية لاستنهاض المسحوقين والمتسلطين معاً ضد انفراد قومية واحدة بالثروة. فقد (أنزلناه لساناً عربيا) و(كنتم خير أمّة أخرجت للناس) كانت من أجل الانفكاك عن الهيمنة البيزنطية في شمال الوطن العربي، والهيمنة الفارسية في الجنوب. أما وقد تم النهوض ضد تلك الهيمنة القومية وبناء الدولة المركزية بمؤسساتها، على أساس زيادة الإنتاج والدخل، وإعادة توزيع الثروة على أساس ما كان يعتقد بأنه عدالة اجتماعية، فذلك كله يتطلب (لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، أي أن الشعور القومي ضروري لكل ثورة، ولكن بالحدود التي لا يتحول بتجاوزها منهجاً لاضطهاد قوميات أخرى.
ما جرى في الإمبراطوريات الدينية فيما بعد هو نقض للمنهج الثوري الديني، فمن مصلحة المتسلط الاقطاعي استخدام الشعور القومي بالمعنى التسلطي، أي هيمنة قومية واحدة من أجل الإثراء على حساب القوميات الأخرى.
الانقسام المسيحي الكبير في القرن الرابع الميلادي الى كاثوليك وارثوذكس كان سببه الأول هو إلغاء قيادة كنيسة الإسكندرية لمسيحيي العالم ومنح تلك الصلاحية لكنيسة روما، أي تشريع الانقسام بين دينين مسيحيين: واحد للمسحوقين يطالب بالعدالة الاجتماعية ووحدة مسيحيي العالم اسمه (ارثوذكسي)، وآخر للمتسلطين يكرس الاضطهاد الطبقي ويفتح ويتيح للحروب المسماة (دينية) لتكريس هيمنة الغرب على الشرق، اسمه (كاثوليكي).
الانقسام حدث سابقاُ في اليهودية عندما تحولت من دين يدعو للقضاء على العبودية إلى دين آخر، حيث أصبحت دين المتسلطين الذين يكتنزون الذهب والفضة ويستعبدون البشر، وقد أتلف بنو صهيون ومن معهم من الكاثوليك والمتأسلمين الجدد معظم الوثائق التي تشير إلى ذلك. كما أنهم مستمرون بمحاولة هدم الآثار وتاريخ الحضارات التي نبذت التمييز العرقي، وحولوا النص الذي جاء ليخرجهم من الفقر والتمزق القبلي العشائري ويوجههم لبناء الدولة (شعب الله المختار) إلى غير هدفه، واستخدموه ذريعة لاضطهاد القوميات الأخرى.
في بداية النهوض الإسلامي كان الشعور القومي حافزاً للتخلص من الهيمنة الخارجية، ولكن في العصور الذهبية جرى صراع دموي بين دين المسحوقين (المعتزلي) ودين المتسلطين (الجبري)، وقد انتصرت الجبرية بالحديد والنار في نهاية المطاف، الأمر الذي ادّى إلى انهيار الإمبراطورية فيما بعد.
أما الشعور القومي الذي كان السبب الرئيس في توحد المتسلط والمسحوق معا للنهوض ضد الهيمنة الخارجية، تحول فيما بعد إلى نزعة قومية لاستعباد الآخرين، فقد رفض المسلمون المتسلطون دخول بعض الأقوام في الإسلام وأجبروهم على دفع الجزية.
النزعة القومية هي ليست شعوراً عاطفياً وحسب، إنما توجه اجتماعي يتطلب دفع المسحوقين بالدرجة الأولى، للتحول الى جنود للاستحواذ على القوميات الأخرى وبناء كروش المتسلطين.
- د.عادل العلي