تبدو هذه الجملة شديدة الصدمة للوهلة الأولى إذا ما عرفنا أن المقصود بها تمييع فكرة الفتح الإسلامي لإسبانيا تمامًا. والسؤال الملح هنا هو كيف نصف دخول العرب إسبانيا؟ وما هي حكاية طارق بن زياد وموسى بن نصير؟ وماذا عن معركة برباط وسقوط طليطلة واقتحام قرطبة؟
قبل الخوض في هذه التساؤلات، يحسن الإلمام بمعضلتين شغلتا أوساط المثقفين الإسبان المعاصرين تتعلقان بالماضي الأندلسي والوجود العربي على الأراضي الإسبانية. أولى المعضلتين تتلخص في عجز المثقف الإسباني عن تفهم السرعة الكبيرة في تقدم الجيش العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية وبسط سيطرته في مدة أربع سنوات، وكأنها أرض قفر أو تجمعات بشرية بدائية. هذا الشبح الذي يتراءى للمؤرخين والمثقفين الإسبان مؤلم من حيث إنه يلغي -بذلة- فكرة الوجود الحضاري القوطي والروماني، ويضر كثيرًا بالفكرة التقدمية لمرحلة ما قبل الوجود الإسلامي في أوروبا كلها.
المعضلة الأخرى تكمن في عملية تأرجحهم حيال الحضارة الإسلامية الأندلسية بين قبولها ورفضها. نحن ندرك تمامًا الجدل المحتدم في الأوساط الإسبانية منذ مدة حول الهوية الإسبانية وعناصرها ومكوناتها، وكيف أن التعصب والإقصاء لم يجديا شيئًا، وأن تجريد الهوية الإسبانية من المكون الأندلسي محض مكابرة وغفلة، وهو ما دفع كثيرًا من عقلائهم لاحتواء الأندلس وعدها واجهة مشرقة للثقافة الإسبانية.
وبهذا كان لزامًا عليهم الخروج من حرجين: حرج الوصمة التاريخية أمام «حفنة» من الغزاة لم يكد يقف في وجوههم أو يعرقل صعودهم أحد؛ وحرج إقصاء حضارة مشرقة بمبررات لا يسندها سوى التعصب والعنصرية.
هذه الإشكالات مجتمعة تجلت في مؤلف الكاتب الإسباني القطلوني إغناثيو أولاغيو المعنون بـ «الثورة الإسلامية في الغرب» وهو أصل العنوان الشهير «العرب لم يغزوا إسبانيا». في مؤلفه يستحضر أولاغيو جملة الملابسات السابقة ويقدم حلوله لهذين الإشكالين من خلال نظريته التي سخر فيها من فكرة الغزو العربي للقارة الأوروبية، وأن أقل من خمسة عشر ألف رجل دخلوا إسبانيا- من جنوبها-تمكنوا من قهر ملايين من السكان في شبه الجزيرة الإيبيرية!
لقد أمضى أولاغيو فرضيته بحرفية عالية؛ إذ تبدو محكمة النسيج استدعى لها الظروف التاريخية والاجتماعية والدينية وألبسها منطقًا يصعب معه تهوين الفكرة أو ردها. لقد اتخذ المؤلف من عنايته بالتاريخ الأندلسي منطلقًا لآرائه؛ فتأريخ الفتح الأندلسي تأخر قرنًا من الزمان ولم يواكب الفتح نفسه، وهو ما ترك-في رأيه-مجالًا لخلق الأساطير التي جعلت الأمر منه صدامًا عظيمًا بين فئتين مختلفتين تفوقت فيه الفئة الأقل عدة وعتادا! بل إن أفكارًا بعينها كفكرة حرق السفن وخطبة طارق بن زياد لم ترد إلا في مصادر من القرن السادس الهجري، وهو ما يعزز فكرة الشك فيها ويضعف من شأنها.
ولعل هذا المدخل المنطقي الذي قدمه الكاتب سهل له الاعتداد بأفكار أخرى لا تحظى بنفس القدر من المنطقية، بل تقرب من التخرصات والمبالغة وتسقط في سطوة الذاتية المقيتة أحيانا. ففي حديثه عن عبد الرحمن الداخل مثلًا يستغل العوامل الوراثية لإنكار شخصيته العربية الأموية من الأساس؛ فيرى أنه من المحال أن يكون عبد الرحمن الداخل ذو الشعر الأشقر والبشرة الفاتحة عربيًا ساميًا! ومن المستبعد حين غادر المشرق بعد سقوط ملك آبائه ألا يجد مستقرًا سوى أقصى الغرب-حيث لا عرب- متجاوزًا كل الخيارات المتاحة. كما أن عملية سيطرته وتنصيبه حاكمًا مطلقًا على الأندلس بهذه الطريقة الساذجة نسبيًا، تدعم فكرة أولاغيو التي تشكك بشخصية الداخل وأصله العربي. وما نسبته العربية القرشية إلا ضرورة استراتيجية وحيلة سياسية أملاها عليه واقع الحال من حيث إن الحاكم العام للأندلس لا يصح أن يكون إلا عربيًا قحًّا، وعليه يكون عبد الرحمن الداخل إيبيريًا ارتدى جبة العربي الكريم!
أما من جهة تحول الإيبيريين الأريسيين إلى الإسلام واختياره على عقيدتهم، فيرى أولاغيو أن المسألة كانت سجالًا فقهيًا جمع هؤلاء بالمسلمين وانتهى بتحولهم إلى الإسلام عن قناعة تامة. بل إنهم تعلموا العربية متخلّين عن اللاتينية نكاية بالثالوثيين من أبناء جلدتهم! ومعلوم أن الفرقة الأريسية تتقاطع مع الإسلام في اعتبار عيسى عليه السلام نبيًا وذا طبيعة بشرية. هذه جملة أهم عناصر الفرضية التي قدمها المؤرخ الإسباني أولاغيو، وهي من الصدمة العلمية بالقدر الذي يسلبها قدرًا من القبول والاحتفاء. وفي الحقيقة أنه لا يمكن وصف الأطروحة بالموضوعية ولا التحيز الكاملين؛ فهي تراوح بين المنطقتين وإن كنت أرى الباعث الأساس للفكرة هو تحرك الروح القومية في نفس المؤرخ ابتداءً. لقد أصاب أولاغيو المنطق في مواضع بعينها، مثل الحكاية المتأخرة لخطبة طارق بن زياد وقصة إحراقه لأسطول لم يكن ملكًا له، لك نه اشتط في مواضع بعينها لدعم فكرته وتعزيز وجهة نظره. فمن المضحك فعلًا اعتبار عبد الرحمن الداخل إيبيريًا انتحل شخصية أموي قرشي لمجرد أنه أبيض البشرة أو لكونه لم يجد ممانعة كبيرة حين دخوله الأندلس. إن الظروف التاريخية تحكي لنا كيفية وصول الداخل للأندلس وتملكها وهي مقبولة تاريخيًا، تمامًا كفكرة امتزاج الجنس العربي بأجناس بشرية أخرى لتنتج أجيالًا مختلطة الدماء، كما كان شأن العرب المسلمين. ومن طرف آخر يقف أولاغيو حائرًا أمام سيادة الإسلام واللغة العربية على العقيدة الأريسية التي تشاركها في المنطلقات العقدية، وعلى اللاتينية، لغة السكان الأصليين. وحين يفسر سيادة الدين الإسلامي يجعل الأمر سجالًا فقهيا بين المسلمين والأريسييين انتهى بقبول الإسلام من الإيبيريين، لكنه لا يقدم دليلًا مقنعًا ناهيك عن أن الفكرة برمتها غير مقنعة وأقل منطقية من كثير من الأفكار التاريخية التي ردها وسخر منها. كما أن قوله بأن اللغة العربية سادت لتفضيل الإيبيريين الأريسيين لها نكاية بالثالوثيين؛ تسطيح للدور الحضاري العربي وصيرورة التاريخ التي تفرض لغة المنتصر وثقافته غالبًا. وفي كل الأحوال يظل عمل السيد أولاغيو وجهة نظر يحمد لها الالتفات إلى المختلف بين سطور التاريخ. ولا شك أن وجهة النظر هذه لا قت رواجًا داخل الأوساط الثقافية في إسبانبا وخارجها، ويمكن تلمس هذا في كثير من الطروحات الثقافية اللاحقة، ولعل مطالعة عمل شهير كرواية «المخطوط القرمزيللروائي أنطونيو غالا كفيل بمنحنا صورة واضحة على مدى عمق الفكرة في نفوس المثقفين والمتلقين الإسبان على حد سواء.
- د. صالح عيضة الزهراني