ياسر صالح البهيجان
هل ثمة شيء يدركه الإنسان لكنه يعجز عن إخضاعه للتجربة؟.. سؤال جوهريّ يطال عمق الوجود الإنسانيّة، ويفرض إمكانات لتصديق ما لا يمكن البرهنة على وجوده حسيًا، ويعيد للتأويلات الميتافيزيقيّة شيئًا من حضورها في منظومة الفكر الإنساني بعد أن وصمت لقرون بالجهل والعقم الفكري في ظل سيادة العقلنة الطاغية خلال مرحلة الأنوار في المجتمعات الأوربيّة قبل أن تتبعها في ذات الاتجاه المجتمعات البشرية الأخرى.
الذاكرة الإنسانيّة حافلة بالتراكمات المعرفيّة غير المنسجمة والمترابطة في تشكّلها، حتى لتبدو أشبه بفسيفساء لا تكتسب قيمتها إلا عبر وجودها مجتمعة ومتلاصقة، فيما تستحيل إلى لا شيء إن استقلت كل وحدة بذاتها، وانعزلت عن الكل الذي يمثّل جوهر وجودها الفسيفسائي، والوعي الجمعي لأي أمّة هو الآخر ليس مجرد حقائق وبراهين عقليّة، بل يضم أيضًا الأوهام والتجارب المتخيّلة والقصص المختلقة التي سلّمت بها العقول لكثرة تداولها وقدرتها على الصمود أمام المتغيرات الزمنيّة.
الأدب كان حافظًا لتلك الذاكرة المختلطة، وتمكّن من توطيد اللامعقول في عقليّة المجتمعات البشرية، كما في حالة استنطاق الحيوان البارزة في «كليلة ودمنة»، ورسالة «الصاهل والشاحج» للمعرّي، وحكاية «إيسوب» في رسالة إخوان الصفا، وإن كانت لامعقوليّة الأديب تخضع للتأويل الرمزي، إلا أنها ترسّخ في الآن ذاته إمكانيّة تصوّر ما ليس قابلاً للتحقق وجوديًا، وتؤسس لقابلية الإنسان في تصديق ما ينافي العقل، وتدفعه إلى يرفض إخضاعه للمبادئ العقليّة، والركون إلى الذاكرة الجماعيّة بما تحمله من إشكالات في فهم الوجود الإنساني والموجودات المحيطة بالإنسان.
الإنسان وإن حمل ذاكرة فرديّة تنتح من تجاربه الشخصيّة، إلا أنه يظل خاضعًا كذلك لذاكرة أعم وأشمل، تُكسب الرؤى الميتافيزيقيّة شرعيّتها، وتجعل من الوهم المصطنع حقيقة لا تقبل الجدل، وليس ثمة حكم أو تصوّر بلا مرجعيّة تأسيسيّة يتكئ عليها الفرد ليمنح واقعه معقوليّة تنسجم مع المعقوليّة الجماعيّة، بوصفه كائنًا اجتماعيًا تأبى فطرته العزلة والانكماش، وهو ما أسماه مؤسس إستراتيجية التفكيك جاك دريدا «اللوغوس»، والذي حاول جاهدًا تقويضه؛ لاعتقاده بأن منظومة الفكر الإنساني تأسست بادئ الأمر على قيمة غير متعقلة، توجهه نحو التسليم المطلق بما ينبغي التشكك حياله، وتقوده أيضًا إلى معرفة زائفة تحمل في تقاسيمها ما يناقضها وينافي صدقها.
الفكر الإنساني سيظل محكومًا بجدليّة الواقع والمتخيّل لا بوصفهما شيئين منفصلين، بل بكونهما نسيج يُنتج أحدهما الآخر في عملية تبادليّة تشابه تركيبة الجديلة، والتي تفرض تداخلاً وازدواجيّة وتبدلاً مستمرّة في الأمكنة، تجعل من منظومة الأفكار أكثر الأشياء تعقيدًا في الوجود، وستبقى كذلك ما دامت متعالية على الممارسة العقلية بعد أن حوّلت اللاعقلانية إلى مكوّن رئيس من مكونات العقل ذاته.