د. حمزة السالم
لطالما وقفت في شبابي متأملاً عند مقبرة ملاصقة لمزرعة لجدي، قيل إن أكثر من فيها هم آباؤنا وأجدادنا من الذين سُفكت دماؤهم فيها على أيدي جنود إبراهيم باشا أثناء حصار الدرعية، وبعد سقوطها وتدميرها. فلطالما تساءلت: لماذا سقطت الدولة السعودية الأولى وقد كانت على ما كانت عليه من العقيدة الصافية، وتحكيم الشريعة، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحداثة العهد؟ فكيف تسقط دولة فتية شابة قد تعهد الله بنصرها {ولينصرن الله من ينصره}؟ دولة وفت بعهد الله عندما مُكّنت في الأرض، وقد كان أمراؤها هم فقهاءها وعلماءها، يدرِّسون الناس في المساجد، ويؤمونهم في صلواتهم.
وفي أمريكا كنت مراهنًا على انتصار الطالبان تحقيقًا لوعد الله بنصر عباده الذين نصروه ووفوا بعهده عند تمكينهم في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر. فما وعيت بعد أن هُزمت الطالبان إلا والتهم بالشرك والانحراف والضلال تتقاذف على الطالبان من السلفيين أنفسهم قبل غيرهم. وهكذا، كلما سقطت دولة أو جماعة إسلامية أو فشلت تبرَّأ منها الإسلاميون، وقذفوها بالبدع والشرك والفساد.
فأدركت حينها أننا نهندس لعقولنا حواجز وجدرانًا متنوعة ومتعددة؛ لتمنعنا من التفكير بحقائق الأمور وأصولها، ولتحجب عنا الفهم الصحيح.
فعدت للتاريخ الإسلامي، أتأمله وأفكر فيه، فلم أجد دولة توصف بأنها من الدول التي نصرت الله وحق لها وعد التمكين إلا وقد سقطت سريعًا، وآل التمكين لغيرهم. فهذه دولة الخلافة الراشدة لم تعمر طويلاً، وما اجتمع لها النصر مع الأمن - تقريبًا - إلا في زمن الفاروق -رضي الله عنه-. ولم ينصر علي والحسين، وسُفكت دماؤهما، وهما من هما؟ وهذه مدينة الرسول، تستبيحها دمشق، وتسفك دماء أبناء الصحابة، وتستحل أموالهم وأعراضهم. أفتُستباح المدينة ولا فجور فيها، وتُمكَّن دمشق وهي تقتل الصالحين وتجاهر بالخمور والفجور؟ بل حتى من ظهر ورعه وتقاه من حكام المسلمين انتهى سريعًا ميتًا أو قتيلاً كعمر بن عبدالعزيز. وكم من حركات ودويلات إسلامية قصها علينا التاريخ حاكيًا عن صدقها وإخلاصها، وما إن تنهض إلا وتنتهي سريعًا بين قتيل وأسير وشريد.
ووجدتُ أن أعظم من نُصروا ومُكِّن لهم في الأرض لقرون طويلة من الدول والخلفاء والأمراء هم أكثرهم بطشًا بدماء المسلمين وفجورًا في دين الله. مَن كانت مدنهم وعواصمهم مباسط للنطع ومنارات تعليق الرؤوس، ومقصد الفجور والعهور كما هي مقصد العلوم والحضارة. فهذا مروان بن محمد وأبناؤه وأحفاده، وهذا أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور والرشيد والمأمون والمعتصم. فلا يخفى مدى انغماسهم في الشهوات والخمور والفجور، ومدى بطشهم الدموي بالمسلمين. وهذه دولة بني عثمان، دولة البدع والشرك منذ نشأتها، تُفتح لها القسطنطينية، وتُمكَّن في الأرض وهي دولة الشركيات والخمور والحريم والفجور، بل إنها ترسل في أيام ضعفها تابعًا لها ليمحو الدرعية، ويُسقط دولة التوحيد الدولة السعودية الأولى.
نحن المسلمين عامة لم نعلم تاريخنا الصحيح. ما درسناه هو تاريخ مهنَّدس ومحرَّف ومبتور؛ فأصبحت تصرفاتنا مع الحاضر وتنبؤاتنا للمستقبل خاطئة؛ لأن أساس فهمها ومنطقها خاطئ. والعقل لا يتجزأ؛ لذا صار فهمنا ومنطقنا خاطئًا مقلوبًا، نسنده بأساطير وأقاصيص الكهان أو مخابيل العالم، نتلقط أقوالهم من هنا وهنا؛ لأن خرافاتهم توافق تصوراتنا الأسطورية، ومنطقها المقلوب يؤيد فهومنا المقلوبة.
لن نفلح في إصلاح مستقبلنا ما لم نعمل على إصلاح ماضينا، وإصلاح الماضي والمستقبل يكون بإصلاح العقول والفهوم؛ فالماضي والمستقبل كلاهما لا وجود له إلا في العقول والفهوم.