د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
ادعاء عدم ملاءمة مخرجات جامعاتنا لسوق العمل قديم جدًّا، وبدأ من الطفرة الأولى قبل ثلاثين عامًا كرد تعجيزي على المطالبات بتوظيف أبناء الوطن في الوظائف التي يشغلها وافدون في القطاع الخاص الذي عبَّ الدعوم الحكومية المجانية الضخمة عبًّا بحجة استحداث وظائف لشباب الوطن، ثم لم يفِ بوعده. ويتكرر هذا الادعاء المسيء لشباب الوطن في كل مرة تكرر فيها المطالبات. تزداد البطالة بين شبابنا، وتزداد أعداد الاستقدام. بلغ عدد الوافدين عشرات أضعاف أعداد شبابنا المؤهل العاطل، وقارب اليوم أكثر من ثلث السكان تقريبًا!! واكتسب هذا الادعاء مع مرور الوقت مصداقية وهمية في ظل تقاعس جامعاتنا ومعاهدنا عن الدفاع عن نفسها ضد هذه التهمة المسيئة، وانسياقها معها كيلا يقال عنها إنها خالفت تعليمات المسؤولين.
المنطق خلف هذا الاتهام الخطير لا يستقيم أبدًا؛ إذ إننا لو سلَّمنا بأننا نوظف وافدين لأنهم أكثر ملاءمة لسوق العمل لدينا فعلينا أن نسلِّم أيضًا أن الجامعات الخارجية التي تخرجوا فيها هي فقط من تعرف حاجات سوق العمل لدينا، وكانت تخرجهم خصيصًا لسوقنا؟! ولكن سوقنا يستوفد من أصقاع الأرض كافة شبابًا وافدًا من جامعات لا يُعرف عن مخرجاتها شيء، بل كثير منهم بلا مؤهلات. وهو لا يكترث غالبًا لمعرفة حقيقة أو مؤهل الوافد، ويهتم فقط بمعرفة المرتب المتدني الذي يتقاضاه الوافد. وحصل - للأسف - أن قطاع الأعمال لدينا المحتاج لمواصفات عالية في خريجي جامعتانا وظَّف وافدين بمؤهلات مزيفة، ولم يكتشف زيف مؤهلاتهم إلا بعد عقود من الزمن، رغم أنهم عملوا في مجالات حساسة، كالطب والهندسة، ومن كشفهم هم خريجو جامعاتنا.
جامعاتنا نعرفها، ولكن اللغز الذي لم نتوصل لفهمه، ولا توجد دراسات علمية محددة له، هو المصطلح العام الغامض «حاجات سوق العمل» لدينا. فعندما ضغط بعض المهتمين لمعرفة طبيعة هذه الحاجات رد بعض مسؤولينا بشكل انطباعي كالعادة، بأنها اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي؛ فأمر الملك عبدالله - رحمه الله - بأن يُبتعث للخارج، وللدول المتقدمة كافة، عددٌ من الشباب، يزيد على مجموع طلاب جامعاتنا مجتمعة؛ ليلبوا هذه الحاجات الغامضة. وعاد المبتعثون من جامعات خارجية يرطنون الإنجليزية كأهلها، وتفوقوا في جامعات «تدرِّس بالإنجليزية» في مجالات اقتصاد القرن الواحد والعشرين، كالحاسب، والهندسة، والرياضيات، والمحاسبة والأعمال، وغيرها، ولكنهم - للأسف - بقوا عاطلين؛ والسبب أنهم لا يقبلون بمرتبات العمالة الوافدة؛ فقطاع الأعمال لدينا يوظِّف «العاطل الوافد» الذي لا يجد عملاً مجديًا في بلده على حساب شاب عاطل مؤهل وطني. وهذا انعكس سلبًا على نوعية مشاريعنا التي نفَّذها وافدون.
أما جامعاتنا المغلوبة على أمرها، التي عانت عقودًا ضغطَ هذه التهمة غير المبررة، فقد سارعت لتغيير خططها، واستحدثت كليات إعدادية، مهمتها التأكد من أن الطالب يعرف الإنجليزية، ويعرف «الكرف» من الساعة الثامنة صباحًا حتى الخامسة مساء؛ ليتعلم الانضباط، ويلائم سوق التاجر الاتكالي الذي يرى الوطن من خلال رصيد أرباحه البنكية فقط. تخرَّج طلاب هذه الخطط الدراسية ولم يجدوا عملاً. ولا أخفيكم سرًّا أنه يتردد تكرار حاجات سوق العمل عند كل مراجعة للخطط الدراسية في الجامعات، وعندما يسأل مشارك في لجان الخطط عن هذه الحاجات لا يجد جوابًا لما عسى أن تكون، وينتهي الأمر بوضع خطط غير علمية وغير دقيقة، لا ضبطت مشية الحمامة، ولا أبقت على مشية الغراب! وتذهب كثير من مئات المليارات المخصصة للاستثمار في التعليم أدراج الرياح؛ لأن رفض توظيف المواطن لا علاقة له بالتأهيل والمؤهل.
لا يمكن إعداد خطط جامعية لأمر مجهول، وربما غير موجود؛ فطبيعة اقتصادنا أنه يعتمد على شركات وافدة، كثير منها لا تنتج، ولا تضيف وظائف لسوق العمل، وكثير منها شركات مكفولة بعمالتها وخبرائها من أرباب عمل سعوديين، لكنها أجنبية بالكامل. لكن الشركات الوطنية الحقيقية (كسابك، وأرامكو، والمراعي.. وغيرها) تسابقت لتوظيف مخرجات جامعاتنا من الشباب السعودي. ولسابك تجربة في إنشاء مركز بحثي كبير في كبرى جامعاتنا، وهي تسعى لتوسيعه الآن. مخرجات جامعاتنا تلائم الشركات الوطنية الحقيقية، لكنها لا تلائم حاجات الشركات الوطنية الوهمية.
وأخيرًا، وهذا هو الأمر المؤلم حقًّا، أن الحديث عن عدم ملاءمة مخرجات تعليمنا لسوق العمل ليس حديثًا عن بضاعة منتجة، توصيلات كهرباء أو منتجات زراعية.. لنتحدث عن عدم ملاءمتها للسوق والتسويق، بل عن أبنائنا وبناتنا من شباب الوطن، بشر في مقتبل العمر، بشر مؤهل متعلم متقد الذهن، قابل لمزيد من التأهيل والتعليم إذا ما كانت هناك حاجة لذلك.. وهذه مهمة القطاع الخاص في أي اقتصاد منتج غير طفيلي يقتات على المال العام. والخلاصة هي أن الإشكال في هذا السوق الذي أطلقنا عليه مجازًا «سوق العمل» هي أنه قائم أساسًا على التستر، وبيع الكفالات، والاستحواذ على القروض والمعونات، والتمصلح من النفوذ.. أوقفوا الاستقدام يصلح سوق العمل لخريجي جامعاتنا، وستجدون مباشرة أنهم عملة نادرة. وهنا سيلائم السوق المختل تطلعات شبابنا للعيش الكريم، لا العكس. أما الجامعات فهي تعمل بكل جهد ووطنية، خاصة في ظل أوضاع اقتصادية صعبة جدًّا. ويكفي أن نعلم أن مرتبات أعضاء هيئة التدريس لدينا هي الأقل في الخليج قاطبة. وفي الختام، تحياتي لكل شاب درس وثابر وتخرج؛ فالعيب ليس فيك، ولا في تأهيلك؛ العيب فيمن كان السبب، فيمن يفضِّل الوافد عليك.