د. جاسر الحربش
ولم أر في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام
من خصوصيات العالم الثالث الاكتفاء من الحقوق بما يحفظ الستر ومن التعليم بالحصول على الشهادة والوظيفة ومن المحصول الفكري الاكتفاء، بما يكفي للتحدث في كل شيء بلا معنى في المجالس، ومن التقنية بشراء أحدث إنجازات الخارج وتشغيلها حسب الكاتالوج أو باستقدام المشغل. هل نصنف أنفسنا ضمن هذا العالم، ذلك متروك لاستنتاج القارئ حسب قناعته.
ينقص العالم الثالث أهم عنصر للانتقال من حال التخلف إلى حال التقدم، وهو العمق الفكري في كل الأشياء والظواهر والمسلمات من حوله.
العثور على هذا الطريق كضرورة ماسة للتغيير أوجده فلاسفة التنوير، وهو الذي أسس للانفجار العلمي والصناعي المكتسح منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى اليوم.
أعتقد أن السير في هذا الطريق الفكري ما زال غائباً عن مؤسساتنا العلمية والنظرية السعودية والخليجية وعن دوائر التثقيف الذاتي التبادلي في الأندية والتجمعات الثقافية.
الأرجح أن هذا الغياب للغوص الفلسفي المعرفي نابع من التبديع أو التحريم للتجديد والمنطق والفلسفة في أنواع الفقه التي تحكمت في الفكر الإسلامي منذ عصر الإمام الغزالي وهجومه على سابقيه ومعاصريه من الفلاسفة، ثم ورثنا هذه الهيبة والخوف وما زالت تتحكم في الدرجات التي نستعمل فيها عقولنا ثم نتوقف قبل أن ندخل فيما يسميه الفقهاء التجديف.
لا أعتقد أن كلية جامعية خليجية واحدة سوف تغامر بترشيح واحد من أساتذتها كممثل مناسب لاستيعاب طرق التفكير في نظرة كانت وهيجل وهوبس ولوك إلى الحياة والظواهر والمسلمات والمآلات.
فلاسفة الفكر العربي قبل الملاحقة والتكفير، مثل ابن رشد وابن باجه والرازي وابن طفيل، هؤلاء استوعبهم فلاسفة الغرب أولاً ثم بنوا عليهم وأضافوا اجتهاداتهم الخاصة.
فكر فلاسفة التنوير هو الذي أغلق أبواب الخرافات والأساطير وفتح الأبواب للعلوم العصرية، ومن المفترض أن يكون هذا الفكر في أولويات المناهج الدراسية العليا النظرية والعلمية عندنا، بما في ذلك الدراسات الشرعية لفرز ما هو سماوي جوهري عما هو بشري اجتهادي تتداخل فيه العادات والتقاليد والخرافات.
بدون الالتزام بالشروط العقلانية التي بني عليها الفكر الفلسفي تبقى العقول المتلقية في جامعاتنا ومعاهدنا حبيسة طرق التفكير التراثية، فيكون المعلم أستاذاً في الفيزياء أو الكيمياء مثلا في جامعته، لكنه يتعامل في حياته بعقلية ما قبل التحديث الفكري والعلمي والصناعي.
فصل العلوم عن سياق تطورها التاريخي الشرطي الذي أنتجها، هذا ما أسميه الاكتفاء بنصف المسافة.
تستطيع أن تشتري مصنعاً ينتج لك أقراص البنادول لتخفيف صداعك، لكنك لا تستطيع شراء العقل الذي أنتج البنادول.